الراحلة.. التي لم ترحل

مشاهدات



د. خالد الخفاجي


كل إنسان قد يرحل، ولكن يرحل إلى أين؟ أو يرحل وفق أي معنى؟ وأية إرادة ورغبة؟ وهل يرحل بعد أن عزم على الرحيل؟ أو هل يرحل الإنسان بمحض إرادته أو محض إرادة خفيةٍ عليا؟ عمدنا إلى كل هذه التساؤلات لأن الرحيل له معاني كثيرة في قواميس ومعاجم اللغة العربية، منها مثلا الرحيل هو الارتحال أي الذهاب والسفر، والرحيل هو من يقوى على السير، وعلى هذا الأساس تختلف المعاني، فمن رحل عن بلده أي تركه، فيقولون له صحبتك السلامة في حلك وترحالك وفي إقامتك وسفرك، ومن يرحل إلى بيت جديد، أو يرحل الى بلاد أخرى، ومن رحل بمعنى يصبر على أذى نفسه، أو من رحل إلى الأبد أي مات يعني توفيًّ، وقبل أن نبدأ رحلة مقالنا الشجي هذا، لابد لنا لنضع مرادفات الرحيل ومنها، الإدبار والاعتزال والانفصال، والبعد، والتجنب، والترك، والتفاد، والذهاب، والفرار ، والقطيعة، والمغادرة، والمفارقة، والنزوح، والهجر، والهرب، والاغتراب، والتغرب، إذن كلٍ منا رحل وسيرحل، ولكن هذا الرحيل ليس مؤقتا ولا نحو بلادٍ أخرى، بل هو الرحيل الأخير نحو الله، وربما بعد أن يهيِّلوا عليه التراب وبمجرد الخروج من المقبرة تحضر الدنيا بأحاديثها ذات المصالح الخربة الذاتية والتجارية، وبعدها بلحظات تنتفخ العضلات وتتفتح الابتسامات، وتفرج التفاهات عن الضروس، وتعلو الضحكات، تبا ًلها من عادةٍ بائسة، تجعل الحياة أكثر من بائسة، صديقة ناشطة عزيزة علينا أَودعت أمها قبل أيام في جوف قبر لا يتحمل وحشتهِ سوى عظيم اسمه الله، هو الذي يتكفل بها، وانسلت بوشاحها الأسود دون أن تصدق أنها تركت أمها في حفرةٍ لا تتجاوز المترين بلا رجعة وهي التي كانت قبل ساعات تطعمها وتشعر بها الحياة مكتملة، ومازالت من هول الصدمة لم تدرك وجهة طريقها إلى أي ظلام، بل أصبحت تحدث نفسها، هل هي خارجة من مجرد مأتم ، أو من جبروت عزاء؟، وكيف سيكون لونَ حياتها بعد رحيل من تحت أقدامها الجنة؟ تجسَّد أمام روحي مباشرة وأنا أصفُ حال صديقتنا الناشطة، كيف أَعدتُ التراب بأصابعٍ ترتعش على قبرِ أُمي ودموعي تودعها بحشرجة صوتٍ وكأنَّ دمعةَ سقطت على غير سجية احتفالات الدموع فالتصقت بالذاكرة، لا أستطيع كيف أصف روحي التي أُنتزعت من جذورها لحظة فراقِ قبرها، وكأنها يوم القيامة. وعودة على بدء، الرحيل هو قدر مفروض على كل كائن من سلالة آدم وحواء على هذه البسيطة، مهما كان لونه وشكله، ودينه وعرقه، وجاهه ومنصبه، وثرائه وفقره ، وقوته وضعفه ، وطوله وقصره، يوم رحيله محتوم دون تأخير واختيار، فإذن هو رحيل دون إرادة الفر د، وبلا وجهةٍ يحددها الإنسان، هناك وجهتان إما الجنة وإما النار لا غيرهما، وكل راحل سرعان ما يكون طي النسيان، إلاّ راحلة واحدة تبقى خالدة في الذاكرة والوجدان مهما تغيرت ملامح الدهر، هي الأم التي كرمها الله تعالى وجعل جناته العظيمة تحت أقدامها، وكلفها بإعمار الأرض لتستمر، ومنحها ميزة القدسية ومنبت الوجود. كل هذه البانوراما الحزينة ولا نرى من يتِّعظ، ما أغربكِ أيتها الدنيا؟ وما أغرب ناسك يا وطني؟ كم كثُرَ في رحمك الفاسدين والسراق، المتسلطين على رقاب الشعب، الذين يأكلون قوت الفقراء في حكوماتنا الجشعة، والخارجين على قوانين الأرض والسماء، باسم الشرائع والفتاوى والرياء، والموت بينهم يمشي كل دقيقةٍ دون أن يراه أحد. كما خُيِّل لي كيف تنازعت الصراعات في عمقِ جوارح صديقتنا التي اختنقت روحها حين أُسدل التراب على قبرِ أُمها، رغمَ إنها في اللاّوعي شعرت برائحة زكية تختلط بأنفاسها، وكأنها رأت الملائكة تنثر الورود على قبر الراحلة التي لم ترحل، ولسان حالها يقول .. ارقدي بهدوء يا أمي،، ونامي قريرة العين،، فأنت بين يدي واحد أحد،، أرحم من كل أحد. عندئذ أدركت بأن الحياة هي رمشة عين، ومن يفارق عزيزا، بعينه تصغر الدنيا، وتكون أقرب منه إلى البين..

تعليقات

أحدث أقدم