بين فرنسا وإيران… ومصلحة لبنان

مشاهدات



خيرالله خيرالله


ما لم تستطع فرنسا استيعابه أن لبنان لم يعد يمتلك مناعة تسمح له بمواجهة المشروع الإيراني وذلك على الرغم من وجود نقمة شعبية شيعية واسعة على الثنائي الشيعي.

صورة جديدة

من الصعب قبول “حزب الله” بالمبادرة الفرنسية التي حملها الرئيس إيمانويل ماكرون إلى لبنان، بل يستحيل ذلك في غياب ظروف معيّنة ليست متوافرة حاليا لا في لبنان ولا في المنطقة.

يعود ذلك إلى سبب في غاية البساطة. المبادرة الفرنسية محاولة أخيرة لما يمكن إنقاذه من لبنان، فيما مصير لبنان واللبنانيين آخر همّ من هموم “حزب الله” الذي لا تهمّه سوى إيران ومصير النظام فيها، وقبل ذلك مشروعها التوسّعي في المنطقة. إيران نفسها ستسأل ما الذي في استطاعة فرنسا تقديمه في وقت لا تستطيع فيه الاستغناء عن لبنان كورقة في لعبتها الهادفة إلى تحقيق صفقة مع “الشيطان الأكبر” الأميركي.

لماذا، إذا، إضاعة الوقت في غياب تغيير في الموازين على الصعيد الإقليمي وليس في الداخل اللبناني فقط. يصحّ في حال لبنان والمأساة التي يعيش في ظلّها السؤال ماذا لدى فرنسا من وسائل ضغط على إيران، أو ترغيب لها، حتْى تقبل بتغيير جذري في مفاهيم حاول “حزب الله” تكريسها؟

نجح الحزب في ذلك وصولا إلى فرض رئيس جمهورية معيّن على اللبنانيين. تلا ذلك قانون انتخابي أدّى إلى أكثرية نيابية في جيب “حزب الله”، أي إيران. وصل الأمر بالحزب إلى تحديد من رئيس مجلس الوزراء السنّي في لبنان ومن يشارك في الحكومة ومن لا يشارك فيها. من هذا المنطلق، لا يمكن للحزب إلّا أن ينظر بعين الريبة والرفض المسبق إلى حكومة اختصاصيين غير حزبيين ينتمون إلى لبنان آخر يشكّلها مصطفى أديب بمواصفات فرنسية. تعيد مثل هذه الحكومة لبنان إلى الحظيرة العربية والدولية وتكون نقطة انطلاق لإصلاحات في العمق لا مفرّ من الإقدام عليها…

ماذا يعني تغيير على الصعيد الإقليمي يجعل حكومة مصطفى أديب احتمالا ممكنا؟ يعني قبل كلّ شيء ظهور حاجة إيرانية إلى فرنسا تكون بديلا من الأخذ والردّ معها من أجل كسب الوقت ليس إلّا. عندئذ، ستجد طهران نفسها مجبرة على الإفراج عن الحكومة اللبنانية، مع ما يعنيه ذلك من تمكين مصطفى أديب من تشكيل حكومة تضمّ اختصاصيين من خارج الأحزاب اللبنانية، خصوصا من خارج “حزب الله” وحركة “أمل” الشيعية التي يرأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري و”التيّار الوطني الحر” الذي يقوده جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية ميشال عون، حليف “حزب الله”.

نعم، لا حاجة إلى إضاعة مزيد من الوقت. كلّ شيء واضح في لبنان. من يعتقد أنّ إصرار الثنائي الشيعي على تسمية الوزراء الشيعة في الحكومة وعلى حقيبة المال حصل صدفة أو بسبب العقوبات الأميركية على وزيرين سابقين يتجاهل لبّ الأزمة اللبنانية. لبّ الأزمة اللبنانية وقوع لبنان في أسر إيران التي تتطلّع إلى صفقة مع “الشيطان الأكبر” وليس مع فرنسا الحريصة على لبنان لأسباب عدّة.

منذ توقيع الوثيقة التي ولد منها نظام جديد يقوم على المعادلة الذهبية الحقيقية هي معادلة {السلاح يغطي الفساد والفساد يغطي السلاح} بدأت رحلة الانحدار اللبناني وصولا إلى ما وصل إليه

بعض هذه الأسباب عاطفي وبعضه الآخر مرتبط من دون شكّ بالمصالح الفرنسية في وقت هناك تجاذبات، بل أكثر من ذلك، في البحر المتوسّط. يعطي فكرة عن هذه التجاذبات ما تسعى تركيا إلى فرضه كأمر واقع في المتوسط في مرحلة تعتقد فيها أنّه سيكون في استطاعتها استعادة أمجاد الدولة العثمانية والعودة إلى ما قبل كلّ المعاهدات التي وقّعتها، خصوصا معاهدة لوزان للعام 1923.

ثمّة حاجة إلى معجزة كي يتمكن مصطفى أديب من تشكيل حكومة، اللهمّ إلّا إذا قرر الرجل أن يكون حسّان دياب آخر فيرضخ لشروط الثنائي الشيعي التي لا منطق لها باستثناء منطق تأكيد أن لبنان تحت الهيمنة الإيرانية. لن تقبل إيران بسهولة التراجع عمّا حققه استثمارها اللبناني.

تبيّن مع مرور الوقت، أن لبنان ورقة في أهمّية العراق بالنسبة إلى “الجمهورية الإسلامية” التي اضطرت أخيرا إلى التراجع خطوات هناك بسبب تحرّك المواطنين الشيعة العرب أوّلا. هؤلاء أدركوا، في معظمهم، ما هي سياسة إيران وكيف تنظر إليهم وكيف ترى في العراق مجرّد مستعمرة إيرانية. لكنّ ذلك لا يمنع إيران من المحاولة يوميا لاستعادة مواقعها العراقية. أوجد العراقيون، خصوصا مع تولي مصطفى الكاظمي موقع رئيس الوزراء، حركة لا يمكن سوى أن تؤدي يوما إلى استعادة البلد موقعه بعد التخلّص من المحاصصة المذهبية. هذا التغيير نحو الأفضل بدأته حكومة مصطفى الكاظمي عبر التعيينات الإدارية الأخيرة التي شملت تولي سنّة مواقع أمنية استبعدوا منها سابقا، أي منذ القرار الأميركي بحل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية.

ما لم تستطع فرنسا استيعابه أن لبنان لم يعد يمتلك مناعة تسمح له بمواجهة المشروع الإيراني وذلك على الرغم من وجود نقمة شعبية شيعية واسعة على الثنائي الشيعي. يعود غياب المناعة اللبنانية إلى استسلام ما يسمّى “التيّار العوني” لـ”حزب الله” منذ توقيع وثيقة مار مخايل في السادس من شباط – فبراير 2006. منذ توقيع الوثيقة، التي ولد منها نظام جديد يقوم على المعادلة الذهبية الحقيقية هي معادلة “السلاح يغطي الفساد والفساد يغطي السلاح”، بدأت رحلة الانحدار اللبناني وصولا إلى ما وصل إليه البلد حاليا.

جاءت المبادرة الفرنسية لكسر هذه المعادلة من منطلق أنّ هناك طبقة سياسية لبنانية لا تعرف شيئا لا في الاقتصاد ولا في السياسة. لا تدرك معنى انهيار النظام المصرفي اللبناني وتفجير ميناء بيروت وأبعاد ذلك على مستقبل البلد برمته. ربّما لا تدرك فرنسا أنّ لا وجود لمثل هذه الطبقة السياسية التي لا تعرف شيئا عن معنى إفقار اللبنانيين وعن العزلة العربية للبنان وأهمّية وسط بيروت أو النظام التعليمي أو معنى أن يكون لبنان مستشفى المنطقة.

باختصار، لا وجود لطبقة سياسية في السلطة تدرك معنى مؤتمر “سيدر” الذي انعقد في باريس في نيسان – أبريل بفضل سعد الحريري ولا أحد آخر غير سعد الحريري. كان “سيدر”، الذي يعني تنفيذ الإصلاحات أوّلا، الفرصة الأخيرة التي لم يوجد في أعلى مواقع السلطة في لبنان من يتلقفها.

سيكون على فرنسا البحث عن مخرج للبنان خارج لبنان. الأمل مفقود لبنانيا. بكلام أوضح، ليس في استطاعة فرنسا سوى إقناع إيران بانّ لديها مصلحة في التعاون معها في لبنان. إلى إشعار آخر، هذا ليس واردا أقلّه في ظلّ الرهان الإيراني على تغيير في الولايات المتحدةوهو رهان سيدفع لبنان ثمنه غاليا، بل غاليا جدّا!

تعليقات

أحدث أقدم