انفعالات الحب الطارئ

مشاهدات



علي الصراف


السلطة الفلسطينية التي تعيش في عالم البيانات هي التي مهدت لإسرائيل أعمالها التوسعية وهي التي عرقلت دوافع الشعب الفلسطيني للوقوف بوجه إسرائيل وهي التي جعلت التعايش مع الاستيطان ممكنا.

السلطة الفلسطينية سيدة التنازلات

كاد الانفعال يدفع بدولة فلسطين إلى أن تتخلى عن مقعدها في جامعة الدول العربية. ولكنها اكتفت بالتخلي عن رئاسة دورتها الحالية. إذ قال وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي “إن فلسطين لن تتنازل عن مقعدها في الجامعة، لأن ذلك سيخلق فراغا يمكن أن يولد سيناريوهات مختلفة نحن في غنى عنها في هذه المرحلة الحساسة”.

وهو ما يعني أن “الفراغ” و”سيناريوهاته” هما المشكلة، وليس مبدأ التخلي عن المقعد. وهذا أمر عجيب. ولكن حتى ولو خانته الصياغة، فإن المالكي وضع فلسطين في موضع يبدو عدائيا تجاه الجامعة العربية. وفي ذلك من الغطرسة ما فيه.

ماذا يعني أن تتغطرس على الجامعة العربية، وأن تقول فيها ما لم يقله مالك في الخمر؟ ماذا يعني أن تهاجم هذه المؤسسة، وأن تتخلى عن دورك فيها، لمجرد أنها رفضت ما تريد أن تفرضه عليها؟ وأي معنى من معاني “السيادة” يبقى، إذا ما تحولت قرارات الجامعة العربية إلى فروض يفرضها طرف واحد، لأنه هو صاحب القول السديد، وهو مالكه الوحيد؟ وهب أنك تملك حقا. فهل يجيز لك ذلك أن تتعالى فيه حتى على المؤسسة التي صنعت الاعتراف الأول بمنظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعي الوحيد، وأفرغت لها مكانة الدولة ذات السيادة؟ التعالي في الحق، مثل التعالي في الباطل، يعمي البصيرة عن الحق نفسه، ويجعل الغرور هو الحوض المنيع.

هناك حقوق فلسطينية. هذا لا جدال فيه. فهل أنكرها أحد؟ وهل تراجعت الجامعة العربية، كمؤسسة، عما أجمعت عليه في شأن القضية الفلسطينية؟

لماذا تعود السلطة الفلسطينية إلى اللغة البائدة التي استخدمتها في إدانة مصر عندما وقعت، لأسبابها الخاصة، اتفاقية كامب ديفيد؟ وهل في عودة اللغة إلى الوراء ما يفيد القضية الفلسطينية، أم أنه علامة على العيش في ذلك الوراء. وعلى نحو انتقائي أيضا؟

ليست المسألة مسألة دفاع عن تطبيع أو هجوم عليه. المسألة الأهم هي مسألة فهم غائب لحقائق الواقع. وأول هذه الحقائق، أن أحدا لم يتخل عن الحقوق الفلسطينية، ولا تنازل عن نيابة عن الفلسطينيين عن أي شيء. ولو أردت الواقع، فإن السلطة الفلسطينية هي سيدة التنازلات. ابتداء من ثقوب وثغرات اتفاقات أوسلو إلى التغاضي الواقعي عن انتهاكاتها من جانب إسرائيل.

لا تقل للناس إن السلطة الفلسطينية أصدرت بيانات في إدانة تلك الانتهاكات. إسرائيل لا تشتري تلك البيانات بقرش. ولا تقل للناس إنك ثابت على المواقف والمبادئ. فهذا ما لا دليل ماديا عليه، سوى أن السلطة الفلسطينية هي التي ظلت تتراخى وتتراخى في مواجهة إسرائيل حتى أطمعتها بالمزيد من التوسع والاستيطان، قبل أن يبلغ الطمع الضفةَ الغربية نفسها.

السلطة الفلسطينية التي تعيش في عالم البيانات، هي التي مهدت لإسرائيل أعمالها التوسعية. وهي التي عرقلت دوافع الشعب الفلسطيني للوقوف بوجه إسرائيل. وهي التي جعلت التعايش مع الاستيطان ممكنا.

الفلسطينيون لم يختاروا ما اختارته لهم سلطتهم. سوى أنها عوضت ما ضاع من أرضهم ببيانات، وأشبعت فقرهم وحرمانهم بشعارات، وظلت تقول ما لا تفعل، وتفعل ما لا تقول. حتى الرواية الفلسطينية تم التخلي عنها، لتصبح المسألة وكأنها “سوء تفاهم”.

اُنظر إلى الحماسة التي أمسكت بها من التلابيب لإنهاء الانقسام بعد دهر من الترهل والتفكك، لمجرد أن دولة عربية قررت أن تقايض التطبيع بوقف المزيد من الضم. ليأتي السؤال الذي لم يُجب عليه أحد هو: أين كنتم كل ذلك الدهر؟

أهل الكهف في رام الله وغزة الذين صحوا فجأة على مغازلات وطرب، لم يتمكنوا حتى الآن من إنهاء الانقسام، وظل العزف المنفرد قائما في أوركسترا الخطابات التي تُشنف الأسماع. ذلك لأن المسألة جاءت، كما جاء غيرها، كفورة القهوة، لتمارس انفعالات الحب الطارئ بين سلطتين لم تنزل أي منهما عن بغلة “المواقف”. وكلها في النهاية بيانات، لا تساوي في قيمتها شروى نقير.

ولقد اشترينا مواقف وبيانات حتى شبعنا، من دون أن تثمر شبرا إضافيا أو تحمي شبرا يضيع. وكأن سلعتنا في معركة التحرير هي بيان نقوله ونستريح.

ولقد اختارت سلطتا الانقسام الفلسطيني أن تواصل المفاوضات في تركيا. وبرغم كل ما في ذلك من سوء وإهانات للأمة العربية، فإنهما لم تتعلما من أردوغان نفسه، أنه بعد كل سباق البوارج الحربية في شرق المتوسط، رفع سماعة الهاتف ليقول لليونان إنه تنازل عن بغلة التصعيد، وإنه مستعد للحوار.

لا تسأل، ما الذي كان يمنع الرئيس محمود عباس أن يشق الطريق إلى أبوظبي والمنامة لكي يكرس المُكرّس ويجدد التوافق على الأسس التي لم يتخل عنها أحد؟

لا تسأل، أيهما أنفع؟ هذا، أم ذاك؟

فهذا مما لا يخطر على الانفعال، ساعة كتابة بيان يشطب التاريخ ويتنصل، في خمس دقائق، من خمسين عاما من الدعم، لينتحر الحب في الفنجان، بعد أول زوبعة هبت فيه.

أكان الحبُّ مزيفا؟ أكان انتهازيا، صغير المرامي حتى ليجوز أن تقلب السلطتان ظهر المجن لمصر، لتذهبا إلى سرير جديد في أنقرة؟

فوق ذلك، فقد برزت انفعالات الغضب على الجامعة العربية إلى حد الاستعداد الضمني للتخلي عن عضويتها.

أطفال الحجارة الذين كانوا في نحو العاشرة، صاروا رجالا أطفال الحجارة الذين كانوا في نحو العاشرة صاروا رجالا

لا تقل للناس أين كنا، وكيف ضاعت ثلاثون عاما. ولكن لا تقل للناس، أيضا، كيف أنك لم تتغير، وكيف أن بياناتك ظلت تردد أصداء الحائط، وكيف أن العالم بقي هو نفسه، وكيف كان يجب على الأمة العربية، وعلى جامعتها، أن تغض الطرف عن كل شيء لكي تُصدر بيانا يُرضيك، يدين ويندد، من النوعية إياها التي فاض بها الكيل. إلا كيل الذين ظلوا لثلاثين عاما يناورون، منها عشرون ظلوا فيها مسالمين، وعشرة منها منقسمين. وفيها كلها ظلوا مُطبّعين.

الجامعة العربية، كمؤسسة، لم تكن مثالية، وظلت تتعثر في تحقيق ما ظل منتظرا منها في عدد لا يُحصى من القضايا، إلا أنها لم توفر جهدا لمؤازرة الشعب الفلسطيني ودعم سلطته الوطنية، ومساندة الحقوق المشروعة. ولولا تراجعات السلطة الفلسطينية، ما تراجع أحد عن أي شيء. وفي الواقع، فإن الدول العربية ظلت تقف على “يسار” السلطة الفلسطينية في ما يتعلق بالمواقف من إسرائيل. ولا تزال حتى الآن.

عندما يُحصي الفلسطينيون الفشل، فإن الثلاثين عاما، تعني جيلين على الأقل. كما أنها تعني نصف أراضي الدولة الفلسطينية المزمعة، بمقاييس أوسلو نفسها، وأربعة أخماس القدس.

ألم يكن ذلك فشلا؟ ألم يكن يتطلب علاجا؟ ألم يكن يقتضي تحمل مسؤوليات؟ ألم يتطلب الأمر أن تقول: تعالوا يا ناس، لنخرج من هذه الورطة؟ وتعالوا يا فلسطينيين إلى مؤتمر وطني جامع، يتسلم المفاتيح؟

ومن بعد ذلك، فكم من الوقت يحتاج المرء لكي يكف عن ظهر البعير؟

وهل عقرت أرحام النساء في فلسطين لكي لا تلد قيادات جديدة؟ أم أنها لم تعد تنفع إلا لتصنع “القنبلة الديمغرافية”؟ ألم يقتض الواجب احترامها،هي نفسها، باحترام ما تُنتجه؟

أطفال الحجارة الذين كانوا في نحو العاشرة، صاروا رجالا، إنما ليبحثوا عن لجوء. هل كان يمكن للشياطين الزرق أن تتخيل هذا المنقلب من المأساة؟

مسؤولية من كان ذلك؟ وكيف انتهينا إليه؟

يمكن للمرء أن يلقي بعبء المسؤولية على كل من يشاء. ولكنها في النهاية قضية شعب، كان مطلوبا له أن يقرر مصيره بنفسه، ولكنه لم يمسك بمصيره بالفعل، وظل هناك من يتكفل بأن يمسك ببعض أطراف المصير ويترك الباقي للقدر، من دون أن يعود إلى الناس ليسألهم، ومن دون أن يرد الأمانة إليهم، بما فيها بؤس العاقبة وتردي المصير.

وحتى وإن ظل الفلسطيني يملك على الأمة العربية حق الدعم والمؤازرة، في كل تفاصيل حياته. أفلم يكن هذا هو الواقع؟ ألم تؤد الجامعة العربية دورها فيه؟

وبحكم أنها قضية شعب، أفلم يكن من الواجب أن تكون العودة إليه هي الجواب الطبيعي، في كل منعطف، وحيال كل خيار ممكن؟ أو لنسأله عما فشلنا فيه؟ أو ماذا يتعين أن نفعل؟

أما أن تسيطر على حقه في الاختيار والتفكير والتدبير، عن طريق خطاب قديم، وانفعالات تتضارب بين حب وغضب، فهذا ما ثبت أنه لا ينفع.

تعليقات

أحدث أقدم