إبراهيم الزبيدي
لا أحد يُنكِر أن أكثر الدول والجماعات والأحزاب ظلما وفسادا واختلاسا وانتهاكا للحريات والكرامات والحقوق الإنسانية ونفاقا وانتهازية هي الحكومات الثورية وجماعات الجهاد المقدس لتحرير فلسطين.
الحريق دائم: من يطفئه
إن إحدى الحقائق المهمة التي تغيب أحيانا عن بال كثيرين من المعترضين على اتفاقات الصلح الجديدة التي حدثت بين العرب والإسرائيليين في هذه الأيام، وعلى التي ستتبعها في الأيام القادمة، هي أن أبناء جيلنا والأجيال التي قبلنا كان يجري إرضاعهم منذ الولادة قدسيةَ الحق الفلسطيني المغتصب، لتصبح لديهم استعادةُ الأرض المغتصبة عقيدةً راسخة تستوجب التضحية بالنفس والنفيس، ومُكوِّنا أساسيا ثابتا في عقولهم الباطنة، وواحدا من أهم مدخراتهم الوراثية النفسية والعقائدية والثقافية والأخلاقية، إلى الحد الذي يصبح معه أي كلام عن أي سلام مع إسرائيل، حتى لو كان مطلبَ الفلسطينيين أنفسهم، من الكبائر المحرمة والمرفوضة سلفا، بلا نقاش.
وتاريخنا حافل بمجلدات من التخوين والتكفير لكل من يتحدث عن الصلح أو التفاوض أو الاعتراف بإسرائيل، منذ عام النكبة 1948 وحتى يومنا هذا، ولن تتوقف.
ونتيجةً لذلك أصبح أي مواطن مولود في مدينة عربية أو قرية في الأربعينات والخمسينات والستينات، وحتى في السبعينات، يرتجف رعبا وكرها، دون وعيٍ منه، حين يجد نفسه، مصادفةً، في محضرٍ واحدٍ مع مواطن يهودي، رغم أنه قد يكون من أنصار السلام، ومعارضا لصهيونيةِ الحكومة الإسرائيلة وسياساتها.
ولكن ماذا عن الأجيال العربية الجديدة المولودة في أواخر السبعينات، وفي الثمانينات والتسعينات؟ ثم ماذا عن الذين ولدوا في القرن الواحد والعشرين الحالي، والذين سيولدون فيه مستقبلا، وفي الذي يليه؟
إنهم أقلُّ من أجيالنا عبوديةً للقناعات والعقائد والعادات والثقافات الموروثة، وأكثر عقلانية وموضوعية، وأشد انفتاحا على روح العصر الجديد، عصر الإنترنت الذي فرض التواصل اليومي المباشر بين العربي وغير العربي، وبين المسلم والمسيحي واليهودي، واليساري واليميني، والمتدين واللاديني دون حدود ولا قيود.
كما أن الذي ارتكبته وترتكبه الأنظمة الدكتاتورية والجماعات الإسلامية المتطرفة من جرائم وموبقات في المجتمعات العربية، وخاصة في العراق وسوريا ولبنان ومصر وليبيا والسودان واليمن، في العقدين الأخيرين، جعل المواطن العربي غارقا في همه الوطني الخاص، ومنشغلا عن همومه القومية والعقائدية الأخرى.
ومن يتابع فيسبوك وتويتر وواتساب وغيرها ويراقب شباب العرب اليوم وهم منهمكون في تبادل الأفكار والمقترحات والمشتركات الثقافية والعلمية والاجتماعية والتجارية والغنائية والموسيقية مع آخرين من بلاد وأديان وقوميات كانت متنافرة، يدرك أن تغيُّرا هائلا، نفسيا وثقافيا، قد حدث في العصر التكنولوجي الجديد الذي ألَّف بين الشعوب وقرَّبها من ثقافة التعايش السلمي والتسامح والاعتدال.
والتغير في المناخ النفسي الحاصل في مجتمعاتنا العربية والإسلامية حاصلٌ في إسرائيل أيضا. فأهم الدراسات الإحصائية المحايدة تؤكد أن الإسرائيليين اليافعين، خصوصا المولودين في ما بعد العام ألفين، لا يحملون نفس الكمية من البغض والحقد العنصري الديني للمواطن العربي بشكل عام، والفلسطيني بشكل خاص، وذلك لأنهم أكثرُ بُعدا عن المخلفات التي تركتها الحروب الدامية في نفوس آبائهم وأجدادهم الذين جرى تخويفهم من قبل الحركة الصهيونية بحكاية العزم العربي على تحرير فلسطين والانتقام من يهودها بطريقة داعش وسيوفها، وبمفخخات وصواريخ وسكاكين أخواتها المنظمات الإسلامية المتطرفة الأخرى، وحكومات التهديد الدائم بمحو إسرائيل من الوجود، وهي أكثر من الهم على القلب.
والدليل على ذلك أن حجم الاعتراض الشعبي العربي، وليس الحكومي، على اتفاقات السلام بين الإمارات والبحرين وإسرائيل لم يكن كبيرا ولا فاعلا، بحيث أنه لم يوقف الحركة في شارع واحد في أيّ مدينة عربية بالتظاهر أو بالاعتصام، كما كان يحدث قبل سنين. ناهيك عن أن كثيرين من المعترضين لا يُعتد باعتراضهم لأن دوافعهم سياسية مصلحية مفضوحة وتجارة شعارات.
أما اعتراض المواطن الفلسطيني، خصوصا إذا كان غير مُسيس وغير مرتبط إلزاميا، معيشيا وأمنيا، بحكومة رام الله أو بحكومة حماس، فهو حقُه وواجبُه المعقول والمنتظر، دفاعا عن النفس والمصير، وبدافع الخوف الوجوديٍّ المشروع.
ولكنه حين يتأكد من سلامة نوايا الإسرائيليين، ومن صدق المطبعين العرب في تحقيق السلام العادل، ويكتشف أن أحداً لم يسلبه حقه في التصرف بقضيته بحرية كاملة، وأن صياغة مستقبل شعبه المتناثر في أرجاء المعمورة كان وسيظل قراره المستقل الوحيد، فقد يصبح دخولُه إلى خيمة السلام أمرا متوقعا، وربما لازما وحتميا، عاجلا أو بعد حين.
خصوصا بعد أن عرف جيدا أن الذين تحترق حناجرُهم اليوم بشتم الموقعين على اتفاقات التطبيع هم الذين لم يفعلوا شيئا ذا قيمة لفلسطين، ولا للمواطن الفلسطيني، وأن منهم من يحرص على علاقات وثيقة جدا ومتشعبة مع إسرائيل، ويتفانى في مد حبال الصداقة معها سرا وعلانية، ويحافظ على أمنها وحدودها، برغم كل ما فعلته وما تفعله سلطات الاحتلال.
ثم إنه رأى أمس، ويرى اليوم بعينه المجردة حجم الثراء الذي حققه أصحاب الأصوات العالية الهاتفة بالمقاومة والممانعة، من العرب والمسلمين والفلسطينيين، وفضائحهم وفضائح أبنائهم وأقربائهم التي لا يخلو الإعلام الدولي منها وبلا انقطاع.
ولا يُنكِر أحدٌ أن أكثر الدول والجماعات والأحزاب ظلما وفسادا واختلاسا وانتهاكا للحريات والكرامات والحقوق الإنسانية ونفاقا وانتهازية هي الحكومات الثورية وجماعات الجهاد المقدس لتحرير فلسطين.
وقد جاء التصريح الصاعق الذي أطلقه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مؤخرا، والذي أعلن فيه أن الإيرانيين “راغبون في عقد اتفاق معنا، لكنني قلت لهم أن يتريثوا إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية” ليفضح المستور، وليُلح على المواطن الفلسطيني بأن يعود إلى شعبه وحده، وبأن يستمع إلى صوت أرامله وأيتامه ومُهجريه، ويتنبَّه لمستقبل أجياله القادمة، وأن يُعرض عن الجاهلين والانتهازيين وتجار الشعارات.
ثم إن كلام الرئيس الأميركي عن 5 أو 6 دول أخرى ستنضم إلى اتفاقيات مماثلة مع إسرائيل، (وقد تكون إيران واحدةً منها، والعراق بعدها)، يعني أن صفقة القرن قد دخلت مرحلة التنفيذ النهائي العملي الجبري غير الاختياري، بقوة أميركا وجبروتها، وبمباركات الأوروبيين والروس والصينيين المكشوفة أو المستترة، وبالسياسة التدميرية التي مكَّن بها الإيرانيون إسرائيل من مغادرة مقعد العدو رقم واحد للعرب والجلوس في مقاعد الأصدقاء، وربما الحلفاء.
نعم، إن هذا ما كان، وإن هذا ما سوف يكون. والخلاصة أن خيارات الشعب الفلسطيني أصبحت في أضيق حالاتها، الأمر الذي يجعل من واجبه الوطني القومي الديني المُلح أن يعيد حساباته، وبسرعة، وأن يحك جلده بظفره لا بأظافر الإيرانيين والأتراك والقطريين والإخوان المسلمين، وقبل فوات الأوان.
إرسال تعليق