عدلي صادق
بعد الاحتلال، ومع توغل الحاجة معزوزة في الشيخوخة، أصبح مجمل كلامها هذيانا، دون أن يفقد فكرته المرجعية، وهي أن على الضعيف أن يصبر ويقوي نفسه، فلا يخوض حربا غير مستعد لها، ولا يدخل صلحا يضيّع حقوقه!
في أوقات الحروب، ليس أطرف ولا أصدق بَوْحَا وأطلق لسانا، من عجائز النساء
في أوقات الحروب، ليس أطرف ولا أصدق بَوْحَا وأطلق لسانا، من عجائز النساء. فعندما تتلبد الغيوم وتتبدى نُذر النزال المرير، تجدن رجال الطرف الأضعف صامتين، وإن نطقوا، فإنهم يرتجلون كلاما يتمثل حال القوة والاستطاعة، رفعا للمعنويات، ويتحاشون الحديث في السياسة من حيث كونها أخذا وعطاء في مسألة الحياة والمصير.
عندما سُمعت نُذر الحرب وأناشيد الحماسة المبشرة بالنصر في أواخر مايو 1967؛ كانت وحدها جدتي الحاجة معزوزة، هي الباقية من مواليد الربع الأخير من القرن التاسع عشر. فقد تخطت سن التسعين، وأصبح معظم تفوهاتها أقرب إلى الهذيان، مع قليل من حنكتها القديمة. لكن مجلسها المسائي فقد هيبته، ولم تعد تصلح طرفا في أي حديث. والأهم أنها لم تعد تكترث لمستديرات السبائك العثمانية الذهبية الرقيقة، الممزوجة بضفائرها، فباتت في متناول يد حفيد لها شَقيْ!
مع استمرار طنين المذياع، نادت الحاجة معزوزة على حفيدها الثاني الذي كنت، وكان أبوه من وجهاء المدينة. حمّلته رسالة عاجلة ومختصرة بمعنى “قل لأبيك إحنا غير مستعدين، ولسنا بقدرة اليهود. عندما نستعد يكون لكل حادث حديث، خذ عددا من الرجال المعدولين، واذهبوا لتهدئتهم!”.
رد عليها الفتى ساخرا “من هم المعدولون يا حجة؟” فعددت خمسة أسماء، من ذوي العباءات، ثلاثة منهم أميون لا يفكون الخط!
لم تكن مصالحة إسرائيل، آنذاك، في دائرة التفكير، لذا تشكلت المفارقة الطريفة، من خلال أسماء الوفد، أما فكرة الصلح أو محادثة اليهود، فلا مجال لها!
كان رفض الرضوخ أحد ثوابت الوعي الشعبي والرسمي العربي، وقد اتضح ذلك من خلال الوثائق، وإحداها ما كتبه جمال عبدالناصر بخط يده بعد ثمانية أيام الحرب، وكان قد عاد عن قرار التنحي، وأحدث التغييرات في القيادة العسكرية: إننا أمام أحد خيارين: أن نقف ونقاتل أو أن نهرب وننجو، وقرارنا هو أن نقف لكي نبني ونقاتل، ولن نصالح إسرائيل!
بعد الاحتلال، ومع توغل الحاجة معزوزة في الشيخوخة، أصبح مجمل كلامها هذيانا، دون أن يفقد فكرته المرجعية، وهي أن على الضعيف أن يصبر ويقوي نفسه، فلا يخوض حربا غير مستعد لها، ولا يدخل صلحا يضيّع حقوقه!
كان امرؤ القيس، الشاعر الجاهلي وأحد أبرز الساسة العرب في زمنه؛ هو أفصح من وصفوا الحرب والسلام في الأدب العربي، منبها إلى خطورة الاثنتين: رعونة الذهاب إلى الحرب، ورعونة الذهاب إلى “السلام”. وكان ما قاله عن الأولى أطرف:
الحربُ أول ما تكونُ فَتِيَّةً/ تسعى بزينتها لكل جَهولِ/ حتى إذا استعرت وشَبَّ ضِرامها/عادت عجوزاً غيرَ ذات خليلٍ/شمطاء جَزّت رأسها وتنكرت/ مكروهةً للشَّمِ والتقبيلِ.
إرسال تعليق