د. باهرة الشيخلي
يتساءل مراقبون ومحللون ومتابعون للشأن العراقي لماذا تصر الأمم المتحدة على أن تضع المرجعية الدينية على قمة العملية السياسية في العراق.. هل العراق دولة دينية؟ ولماذا لم تلتق الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، جينين هينيس بلاسخارت مراجع طوائف عراقية أخرى، واختزلت الطوائف العراقية كلها بالمرجعية في النجف على أنها مفتاح الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في البلاد؟
الواقع، أن دستور 2005 الكسيح الملغوم استحدث، على حد تعبير الخبير القانوني الدكتور عبدالحسين شعبان مصطلح "المرجعية الرشيدة"، الذي عدّها واحداً من مصادر العدالة في البلاد، ومنذ لحظة الاحتلال أصبح المرجع "البوابة السحرية" التي تمنح ولاة الحكم التفويض وتبارك قراراتهم وقد بلغ تدخل المرجعية في الشأن الوطني في مراحل الجحيم كلها منذ 2003 وحتى ابتداء الغزو العدواني، حين اعترف بول بريمر في كتابه "عام قضيته في العراق" أنه لولا السيستاني، الذي أخذ على يديه، لما تمكن الحاكم الأميركي من قيادة التحالف، ومنذ ذلك الوقت المبكر، أصبح المرجع الديني الحاكمية الفعلية في العراق، ولذلك فإنه النافذة الكبرى، التي تجري الدول والأمم المتحدة مفاوضاتها معها لعلمهم أنها بوابة الحل والعقد.
إن النقائض الدبلوماسية متبادلة بين الأمم المتحدة والمرجعية، فكلاهما خرق الأعراف القانونية والدبلوماسية، فبلاسخارت تجاوزت مهمتها الأممية، ورجل الدين الأجنبي المقيم تدخل في الشأن الوطني الداخلي. ويعدّ، من وجهه نظر قانون الإقامة العراقي، خرقاً قانونياً يمس أمن البلاد.
صدر عن مكتب السيستاني، عقب زيارة جينين هينيس بلاسخارت له في النجف بياناً أوضح أن موقف المرجع متطابق مع الموقف الأميركي، ومع ما طلبته أميركا من رئيس الوزراء الحالي في العراق مصطفى الكاظمي، خلال زيارته إلى واشنطن، مما يكشف عن أن ثمة تنسيقاً بين الاثنين، وهو أمر لم يستغربه سفير عراقي سابق هو الدكتور مظفر الأمين، حينما أوضح، في حديث معي، أن العلاقة بين رجال المرجعية الشيعية والإمبراطورية البريطانية تعود إلى القرن التاسع عشر، إذا لم تكن قبل ذلك، ففي بداية سنة 1900، أصدر السلطان الفارسي قانوناً بزيادة الضرائب على تجار البازار الإيراني مما أثقل كاهلهم ووقفت معهم المرجعية، التي اعتادت على الوقوف مع التجار بوصفها تتسلم منهم أموال الخمس، التي يعتاش المعممون عليها، فأضربوا وتمردوا على أوامر السلطان الذي أراد الهجوم على المرجعية والبازار ولكن بريطانيا وقفت معهم ومنعت السلطان من شنّ أي حملة ضدهم وأجبرته على إجراء إصلاحات كثيرة لصالح المرجعية والبازار، والتي سميت “المشروطية” سنة 1905.
ومنذ ذلك الوقت أصبحت حقيقة معروفة أن بريطانيا تربطها بالمرجعية الشيعية روابط قوية ومصلحة مشتركة، ولهذا فإن أميركا وحلفاءها اتصلوا بالسيستاني، قبل غزو العراق سنة 2003 واستحصلوا الفتوى بعدم محاربة المعتدين أو مقاومتهم، وتسلم وكيله في الكويت السيد محمد باقر الموسوي المهري 200 مليون دولار كعربون لموقفه المخزي بحق العراق، الذي أكرمه، وهو ما أعلنه وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد، والانطباع السائد أن بريطانيا لا زالت تربطها بالسيستاني علاقة وثيقة، وإن كنّا لا نعرف مدى عمقها ومدى التزامه بها، ولكن ما نشاهده أنه يتناغم مع مطالب الدول الغربية أكثر بكثير من مطالب الشعب العراقي الحقيقية ضد الفساد والقتل والطائفية والتبعية لإيران.
والمهري، وكيل المراجع الشيعية في الكويت، هو نفسه الذي نفى أن يكون للفتوى التي أصدرها السيستاني القاضية بتحريم مساندة أميركا لإسقاط النظام العراقي وتحرير العراق، أيّ حجة من الناحية الفقهية الشرعية ومن الناحية الواقعية، لأنها، بزعمه، صدرت تحت إكراه نظام صدام للمرجع، وقد نشر هذا النفي في صحيفة الوطن الكويتية في عدد الثلاثاء الـ24 من سبتمبر 2002.
ركز البيان، الصادر عن مكتب السيستاني، على أن الانتخابات النيابية المقرر إجراؤها في العام المقبل تحظى بأهمية بالغة، ويجب أن توفر لها الشروط الضرورية، التي تضفي على نتائجها درجة عالية من المصداقية، ليتشجع المواطنون على المشاركة فيها، بصفة واسعة، مُقرّاً أن المزيد من التأخير في إجراء الانتخابات أو إجرائها من دون توفير الشروط اللازمة لإنجاحها بحيث لا تكون نتائجها مقنعة لمعظم المواطنين سيؤدي إلى تعميق مشكلات البلد والوصول إلى وضع يهدد وحدته ومستقبل أبنائه، وستندم عليه جميع الأطراف المعنية الممسكة بزمام السلطة في الوقت الحاضر. دعا البيان، أيضاً، الحكومة الراهنة إلى الاستمرار والمضي بحزم وقوة في تطبيق العدالة الاجتماعية، والسيطرة على المنافذ الحدودية، وتحسين أداء القوات الأمنية بحيث تتسم بدرجة عالية من الانضباط والمهنية، وفرض هيبة الدولة وسحب السلاح غير المرخص فيه، وإلى مكافحة الفساد وفتح الملفات الكبرى بهذا الشأن، بعيداً عن أي انتقائية، لينال كل فاسد جزاءه العادل وتسترجع منه حقوق الشعب مهما كان موقعه وأياً كان داعموه، والكشف عن كل من مارسوا أعمالاً إجرامية من قتل أو جرح أو غير ذلك بحق المتظاهرين أو القوات الأمنية أو المواطنين الأبرياء، أو قاموا بالاعتداء على الممتلكات العامة أو الخاصة، منذ بدء الحراك الشعبي المطالب بالإصلاح في العام الماضي، ولاسيما الجهات التي قامت بأعمال الخطف أو تقف وراء عمليات الاغتيال الأخيرة.
وتطرق البيان إلى أن الحفاظ على السيادة الوطنية ومنع خرقها وانتهاكها والوقوف بوجه التدخلات الخارجية في شؤون البلد وإبعاد مخاطر التجزئة والتقسيم عنه مسؤولية الجميع.
انتفاض قنبر، رئيس حزب المستقبل الدستوري العراقي، أبدى استغرابه من استقبال مكتب السيد السيستاني جنين هينيس، التي وصفها بغير المؤهلة لهذا الدور الكبير في العراق، بينما هو يرفض مقابلة العراقيين ولكن يقبل بمقابلة واحدة أجنبية كجنين هينيس.
يقول قنبر “ليس عيبا أنها (جنين هينيس) أجنبية لكن العيب في ما سأقوله، في عام 2015 قصفت طائرات الأف 16 الهولندية التابعة لبلد جينين هينيس ما يسمى بمعمل للعتاد التابع لداعش في العراق، وكان في القصف خطأ كبير وإهمال ما أدى إلى مقتل 70 مدنيا عراقيا. وكان وزير الدفاع الهولندي، آنذاك، هو جينين هينيس، وعندما استدعيت إلى البرلمان الهولندي للتحقيق، بعد الحادثة مباشرة، كذبت وقالت لم يقتل أحد. وفي عام 2019 توصلت لجنة التحقيق الهولندية إلى أن السيدة جينين هينيس مسؤولة عن هذا الخطأ الكبير وأنها كذبت في ما قالته في البرلمان إنه لم يقتل هناك مدنيون عراقيون، والأسوأ من ذلك لاحقت الصحافة الهولندية السيدة جينين هينيس في داخل العراق وسألتها عن هذا الموضوع ورفضت الإجابة عنه”.
أنا لا أعرف كيف وبأي حق وبأي دين وبأي إسلام وبأي تشيع يتم استقبال مسؤولة عن قتل 70 عراقيا سمعتها مشوبة بالفساد، والأمم المتحدة لم يكن لها دور حقيقي فعال إيجابي في العراق أو في أي مكان في العالم لأنها دائرة فاسدة أينما تضع يديها تسوء الأمور، ولكن الأسوأ من ذلك كله أن شخصا مسؤولا عن قتل 70 عراقيا وهو أجنبي يتم استقباله من قبل السيد السيستاني ولا يتم استقبال العراقيين، يتساءل قنبر، وينصح مكتب السيد السيستاني بالابتعاد عن هذه المرأة.
صحيح أن السيد السيستاني كان يمتلك تأثيراً كبيراً على قطاعات واسعة من العراقيين، ولكن انطلاق الثورة الشبابية العراقية، قبل نحو سنة، كان إعلاناً صريحاً بزوال الجزء الأكبر من ذلك التأثير، فالعراقيون يذكرون جيداً كيف أدار السيستاني ظهره للتكليف الشرعي بوجوب مجاهدة المحتلين لأرض المسلمين وأفتى بعدم التعرض للقوات الغازية، كما يذكرون كيف أوجب انتخاب الفاسدين بفتوى نصت على أن من لم ينتخبهم تحرم عليه زوجته، كما لم يغب عن ذاكرتهم استقباله ودعمه للفاسدين طوال السنوات الـ17 الماضية، ولو قُرئ بيان مكتب السيستاني بإمعان سيتبين أن فيه اعترافاً بزوال ذلك التأثير.
خلاصة القول، إن المنصة الوحيدة المخولة بمخاطبة الشعب هي انتفاضة الشباب الممثلة لعموم الشعب والناطقة باسمه، فلا يجوز لأحد غيرها لا أمم متحدة ولا مرجع ديني أن يبتّ في أمر عراقي، صغر هذا الأمر أم كبر.
والسلام للشهداء.
إرسال تعليق