د. باهرة الشيخلي
الفساد المستشري في مفاصل الدولة كلها ينسحب على وزارة التعليم العالي التي تخلت عن دورها التخطيطي والرقابي وسمحت لجهات غير تخصصية خارج الوزارة بإجراء معادلة الشهادات حتى لو كانت مزورة.
أزمة التعليم في العراق لا حدود لها
أصبح معلومًا أن الانهيار في العراق شمل مناحي الحياة كلها، لكنه في قطاع التعليم العالي والبحث العلمي كان أفجع وأشدّ، حيث يبدأ بفجيعة الشهادات المزورة ولا ينتهي بكارثة قانون أسس تعادل الشهادات الذي أقرّه البرلمان في العراق مؤخرا.
كانت نتيجة ذلك كله أن الجامعات العراقية أصبحت خارج تصنيف شنغهاي لـ1000 جامعة بالعالم في سنة 2020، إذ خلا هذا التصنيف الذي نشرته جامعة “جياو تنغ” في شنغهاي من أية جامعة عراقية.
وأقرت سعاد ناجي العزاوي، الأستاذة المشاركة والاستشارية في الهندسة البيئية وعميدة كلية ورئيسة جامعة خاصة سابقا، بألم كبير بأن “التعليم العالي في العراق يعاني تدهورا كبيرا تمكن ملاحظته من خلال خروج معظم الجامعات العراقية من مؤشرات الرصانة العلمية العالمية للجامعات”، منوهة إلى أن “في العراق 35 جامعة حكومية و51 جامعة أهلية، نحو 48 في المئة منها في بغداد و10 في المئة في كربلاء (معظمها دينية)، أمّا في محافظات كبيرة مثل نينوى والأنبار وصلاح الدين فنسبة الجامعات 1 في المئة فقط، وفقاً لما ورد في خطة التنمية الوطنية 2018 – 2022”.
وتعزو العزاوي تدهور التعليم إلى عدم تلبية الجامعات العراقية المتطلبات العالمية العامة والخاصة لاعتماد الشهادات من مساحات الأبنية والخدمات والمختبرات والأجهزة ونسبة حملة الدكتوراه إلى عدد الطلبة وغيرها من الشروط. أما الجامعات الخاصة فمعظمها تمنح الشهادات لمن يدفع بعيدا عن الأداء ونزاهة الامتحانات والمعايير المطلوبة لتقييم الكفاءة.
وينسحب الفساد المستشري في مفاصل الدولة كلها على وزارة التعليم العالي التي تخلت عن دورها التخطيطي والرقابي وسمحت لجهات غير تخصصية خارج الوزارة بإجراء معادلة الشهادات حتى لو كانت مزورة.
وإذا أضفنا إلى هذا كله تدخل الميليشيات وأحزاب السلطة الدينية في تسيير العملية التعليمية وفرض العطل الدينية الطائفية بما يزيد على ثلاثة أشهر من السنة الأكاديمية واغتيال الكفاءات العلمية التي لا تستجيب للشروط المفروضة عليها أدركنا حجم الكارثة في هذا القطاع الذي يعتمد عليه نهوض البلد وتطوره.
وما لم تتطرق إليه العزاوي ظاهرة تزوير الشهادات، وهي من الأخطار الكبيرة التي تواجه المجتمع العراقي وقد انتشرت لتشمل مناحي الحياة كلها وتعددت صورها وأشكالها ووصلت إلى درجة أن تمارس الغش والتزوير كتل سياسية وأحزاب لتحقيق انتصار ما في حملة انتخابية أو إيصال مرشح ما لعضوية مجلس محلي أو برلمان.
وأظهرت إحصائية لمنظمة التعليم العالمي -وهي منظمة دولية لها مقر في بغداد- نسب تزوير الشهادات في محافظات العراق خلال سنتي 2007 – 2008، إذ احتلت فيها محافظة البصرة المركز الأول بواقع تزوير نسبته 19 في المئة تلتها العاصمة بغداد بفارق نصف درجة. وكانت أقل المحافظات نسبة محافظة المثنى الواقعة جنوب غربي العراق بنسبة 2 في المئة.
وتبين المنظمة أن الكثير من المسؤولين، الوزراء والنواب وأصحاب الدرجات الخاصة، يحملون شهادات مزورة صادرة من جامعات معروفة أو غير معروفة وأن هؤلاء يتنعمون بامتيازات الشهادة رغم الكشف عن بطلانها ما جعل الشهادة العلمية لا قيمة لها في نظر الشارع العراقي، بعد أن أصبحت تباع في أسواق الخردة، والغريب أن أحدا من المسؤولين لم يُحاسب على تزويره وتحايله على القانون، وأن عددا من النواب لا يحمل أي مؤهل علمي أو شهادة أكاديمية سليمة، وأنه مارس التزوير عند ترشيحه للبرلمان في الدورات كلها.
وكشف مكتب المفتش العام في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي عن أن العدد الإجمالي للوثائق الدراسية التي قدمها الطلبة للقبول في الكليات والمعاهد بلغ 4790 وثيقة مزورة، فيما بلغ عدد الوثائق المزورة المقدمة لأغراض التعيين 1898 وثيقة لغاية الثلاثين من شهر سبتمبر 2019.
وأوضح أن هناك الآلاف من الطلبة مشكوك في صحة صدور وثائقهم الدراسية، وأنه من بين 44 شهادة معادلة صادرة من دولة قطر كانت هناك 41 شهادة منها مزورة وثلاثٌ فقط صحيحة، فيما بلغت نسبة التزوير في الشهادات الصادرة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية قرابة 99 في المئة.
ويشير كتاب صدر الشهر الماضي بعنوان “العقل العراقي المهاجر – الواقع والمآلات” لمؤلفه أستاذ الفلسفة عبدالستار الراوي إلى أن هيئة النزاهة أعلنت أرقاما مخيفة عن حجم التزوير الحاصل في الدولة العراقية، مما يعني أن هناك كارثة ماحقة ستحدث مستقبلاً بعد أن هُمِّش أصحاب الشهادات العالية والمتفوقون من الطلبة وهجر الملايين منهم ولا زالوا في المهاجر يعانون شظف العيش ومآسي الغربة في الوقت الذي يتمتع فيه الجهلة والمزورون بخيرات العراق.
وكانت الهيئة قد حققت في قضية ضبط عشرة آلاف شهادة مزورة أخرى، فيما لا تزال عشرات الآلاف من الشهادات المزورة لم تمتد إليها يد، في حين أنّ مزوّريها وصلوا إلى مناصب رفيعة.
والسبب الأساسي في بداية نشاط التزوير هو إما إثبات الخدمة العسكرية وإما التعيين وإما السفر وإما غايات أخرى ضيقة، غير أن كارثة التزوير تتسع اليوم بشكل مقلق.
وتشير التقارير إلى أن أكبر مجال اكتشفت فيه مظاهر التزوير هو مجال التعيين في وزارتي الداخلية والتربية، إذ بلغت فرصة التعيين مع الوثائق المزورة مبلغ 10 أوراق (أي ألف دولار) و17 ورقة (أي 1700 دولار)، وهو ما يتم العمل به في ذلك الوسط حيث تسمى فئة المئة دولار ورقة، وهذه الأموال توزع على المشتركين في عملية التزوير والتعيين، ما خلق عملية متكاملة في التزوير والفساد الإداري والمالي يقف وراءها جيش من المستفيدين بات يهدد الدولة ومؤسساتها بالكامل ويسعى إلى استخدام الوسائل كلها لاستمرار الوضع الاستثنائي في البلاد.
وتقف خلف هذا الجيش عصابات الجريمة المنظمة، وهي الذراع العسكري الضارب لجيش الفساد، وذلك بتصفية المنادين بفضح المرتشين والمزورين المتجاوزين على المال العام. وذهب ضحية هذه العصابات الكثير من المواطنين الشرفاء والكثير من موظفي لجان النزاهة والدوائر المالية والعقود في دوائر الدولة المختلفة.
وبات معلوما في الشارع العراقي أن أشهر أسواق تزوير الشهادات والوثائق العلمية وبيعها هي سوق كوجة مروي في طهران، وسوق مريدي في بغداد، قبل أن تنتشر مراكز التزوير في عاصمة الرشيد، حيث جرى تطوير عمليات التزوير بفضل وسائل التقنية الرقمية. وطبقا لمبدأ المنافسة (العرض والطلب) تم تحديد الأسعار وتوصيف الشهادات حسب المستوى التعليمي المطلوب والتخصص، فوصل سعر شهادة البكالوريوس إلى 70 – 100 دولار، وشهادة الماجستير بين 350 و500 دولار، أما شهادة الدكتوراه فيتراوح سعرها بين 700 و1000 دولار، ونوعية هذه الشهادات مطابقة تماما للأصل والفرق الوحيد فيها أنها غير مصدقة أو مسجلة لدى دوائر إصدارها.
وفي مسعى لتكريس تزوير الشهادات وتخريب التعليم العالي مرر البرلمان في 28 أكتوبر الماضي قانون أسس تعادل الشهادات، ولم يمض سوى يوم واحد على تمرير هذا القانون حتى أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية تحفظها عليه، بعد أن وقع تجاهل رأيها في القانون.
وتبقى هناك فجيعة أخرى هي فجيعة الكليات الأهلية التي بدأت تتكاثر تكاثرا أميبيًا في العراق. وتحدث شلال الجبوري مدير عام دائرة الدراسات والتخطيط والمتابعة ثم دائرة البحث والتطوير في وزارة التعليم العالي في السابق عنها بالقول “بعد أن كانت لدينا إستراتيجية وطنية لاستحداث الكليات والجامعات أصبح الاستحداث الآن عشوائيّا يستطيعه كل من لديه مال حتى لو كان حوذيّا”.
وهكذا اتسع التعليم الأهلي وأصبح سائدا ومن دون ضوابط، بحيث أصبح الحصول على الشهادة متاحا لكل من هبّ ودبّ، وكانت الكارثة الكبرى في التعليم الطبي حيث أصبحت هناك قرابة 50 كلية طب أسنان ومثلها كليات صيدلة، وبسبب امتلاء كليات طب الأسنان والصيدلة بالطلبة أعلنت نقابات الأطباء وأطباء الأسنان والصيدلة إلغاء التعيين للخريجين بسبب تدني مستواهم المهني.
وأخيرا يُحكى أن جامعة أسيوط في صعيد مصر كانت بلا أسوار، لأن سليمان حُزَيّن وهو أول مدير لهذه الجامعة تبنى رؤية فريدة شعارها “جامعة بلا أسوار”، فكان يمر عبر الجامعة الحوذيون بعرباتهم وحيواناتهم اختصارا للطريق، ولما تذمر الأساتذة الجامعيون حينها وشكوا ذلك لمدير الجامعة قال لهم “ليسَ مهمًّا أنْ تدخلَ الحميرُ إلى الجامعةَ.. المهمُ هو أن لا تخرجَ منها بشهادةٍ جامعية”.
كاتبة عراقية
إرسال تعليق