مشاهدات
د . ضرغام الدباغ
خلال الأعوام العشرون ما بين أعوام 369/ 389 قبل الميلاد كتب أفلاطون(427ـ 347 ق.م) وهو أحد أبرز فلاسفة الإغريق مؤلفه الجمهورية الذي يكاد يجمع علماء السياسة الغربيون على اعتباره الركيزة الأساسية الأهم في علم السياسية وعليه تأسست أفكار لاحقة سواء في الفلسفة الأوربية قبل وبعد الكنيسة الأوربية أو الفلسفة في عصور ما قبل النهضة وما بعدها .
لسنا بصدد دراسة ومناقشة أفكار أفلاطون بقدر ما نريد هنا التركيز على مبادئ فلسفة الحق التي أستوحى الكثير من علماء السياسة في عصر النهضة وما بعدها أفكارهم السياسية وبنوا عليها بل تذهب المراكز الثقافية الغربية إلى اعتبار أفكار أفلاطون أساساً شيدت عليه صرح الفلسفة في العصور اللاحقة وأن الفلسفة الغربية برمتها ما هي سوى حواشي لأفكار أفلاطون . والأفكار الأساسية أو لنقل بدايات الفلسفية التي بحثت في مفاهيم السياسية والاجتماع لقت تطويرها فيما بعد على يد أفلاطون إنما كانت نويات متناثرة فقول الفيلسوف تراسيماخوس Thrasymachus أن العدالة ليست إلا مصلحة القوى إذ أن الطبقة الحاكمة في كل دولة هي التي تضع القوانين التي تراها أحفظ لمصالحها والطبيعة هي حكم القوة وليست حكم الحق ويذهب فيلسوف آخر هو كاليكلس Callicales إلى اقرب من ذلك بقوله أن العدالة الطبيعية هي من حق الرجل القوي وأن العدالة القانونية هي ذلك الحاجز الذي تقيمه جماعات الضعفاء لحماية أنفسهم (1) أما سقراط (ولد عام 470 وتوفي 395 ق.م في أثينا) وكان أول فيلسوف يرجع إليه الفضل في جميع هذه الحبات المتناثرة ومحاولة صياغتها في إطار فلسفة واضحة فقد حاول من خلال محاوراته مع تلامذته بصفة خاصة الارتقاء بمستوى الفلسفة وتلمس المناهج من أجل التوصل إلى ذلك ولكنه سقط ضحية الوشاة فحكم عليه بالإعدام بتناول السم فأمتثل تعبيراً عن احترامه للقانون وإن كان جائراً فلم يخلف أثراً كتابياً، ولكن تلميذه أفلاطون ضمن مؤلفاته أفكار أستاذه . (2)
وتمثل العدالة والأفكار المتصلة بها المدخل لأفكار أفلاطون وهي بتقديرنا هي حجر الأساس الذي أنطلق منها أفلاطون ليشيد فلسفته السياسية وستكون العدالة موضع بحثنا هذا ومحور أفكاره . فيذكر أفلاطون في تعريف أولي للعدالة : العدالة هي أن يرد للإنسان ما هو له (3) أي أن العدالة أن ترد لمن سلب منه أموال منقولة أو غير منقولة أو أمر معنوي ثم يمضي أفلاطون ليتوسع في مفهوم العدالة ويضع له ملحقات بقوله : أنه نفع الأصحاب ومضرة الأعداء . ثم يقول العدالة هي مساعدة الأصحاب الأمناء وإلحاق الضرر بالأعداء الأشرار.بيد أن أفلاطون ما يلبث أن يتجه صوب واقعية يمنحها الشرعية بصرف النظر عن قاعدة رد ما سلب لأصحابه بقوله : العدالة هي مصلحة الأقوى والحق للقوة (4).
وأفلاطون الذي وافق قبل سطور بالأمر الواقع ومنح القوة شرعية الإرغام يقول : إن الإضرار بالإنسان يجعله أكثر شراً وأقل عدالة. وهو بذلك يقول أن قوة الإذعان لا تملك القوة الشرعية ثم يصل أفلاطون إلى ذروة الازدواجية في التفكير بقوله : إن التعدي يلد النزاع والانقسام أما العدالة فتؤدي إلى الأتساق والوئام وأن التعدي يقضي على كل ميل إلى الاتحاد في العمل بين الأفراد والجماعات لذلك كان التعدي عنصر ضعف لا قوة . ثم يعود أفلاطون ليقبل بذرائعية جديدة قوله : إن إطاعة الحكام هو العدالة (5) في إشكالية ما برحت تمثل نقطة ملتهبة في الفكر السياسي كانت ولما تزال مسألة لم تجد حلها في الفكر السياسي القديم والحديث (عدا نظرية العقد) ولكنها في الفكر السياسي الديني لا يضع الإجابة لتساؤل مهم في واقع الحياة السياسية : ماذا نفعل للحاكم الجائر سواء كان ملكاً أو رئيساً أو إماماً .
وكانت الفضائل ومنها العدالة فقد كانت عند أفلاطون المدخل إلى سائر الموضوعات السياسية والاجتماعية في فلسفته وأفكاره الشاملة.والفضائل عنده :
1 . الحكمة .
2 . الشجاعة
3 . العفاف امتلاك أعنة الرغائب واللذات .
4 . العدالة (6)
أما العدالة فهي الفقرة التي تحتل الاهتمام الأكبر في فكر أفلاطون لعلاقة ذلك بالدولة والمجتمع والناس فهو يعبر عن وصفه أو تعريفه للعدالة ويتفلسف في ذلك ويقلب الأمر على شتى جوانبه ويعض آراؤه عن العدالة بقوله أن العدالة هي أن يرد للإنسان ما له وأنها نفع الأصحاب ومضرة الأعداء ويعرف الأصحاب تعريفاً اجتماعياً واسعاً والأصحاب هم الذين نعتقد فيهم الأمانة والصلاح ثم يصبح أكثر تحديداً بقوله العدالة هي مساعدة الأصحاب الأمناء ومضرة الأعداء الأشرار وأن الإضرار بالإنسان يجعله أكثر شراً وأقل عدالة (7) ولكن أفلاطون وذلك شأنه في مباحثه لا يعرف الاستقرار بل يبدو وكأنه يحاول أن يبلور بحراً زاخراً ولكنه لا يجد إلى ذلك سبيلاً إلا لماماً فتراه يتحول بين الموضوعات بسرعة في هذا يكتب العدالة هي مصلحة الأقوى أو الحق للقوة ثم أنه يعود ويذكر خصال العدالة وكأنه يعظ الحكام إذ يقول إن التعدي يقضي على كل ميل إلى الاتحاد في العمل بين الأفراد والجماعات لذلك كان التعدي عنصر ضعف لا قوة (8)
والعدالة عند أفلاطون مرتهنة بالقدرة على الحكم وفرض الأمر الواقع بما في ذلك سنن الحكومات الدكتاتورية والاستبدادية حيث يجدها أفلاطون عادلة طالما صادرة عن الدولة عن الدولة الحكومة فيكتب أن شرائع كل حكومة مصاغة في قالب يضمن فائدتها فشرائع الديمقراطيين ديمقراطية وشرائع الأوتوقراطيين استبدادية ومعنى ذلك أن في كل ذلك منفعة الحكومة هي العدالة (9)
ورغم أن أفلاطون لا يريد أن يربط أفكاره بالدين كثيراً ولكنه كما ناقض نفسه في كتابه الثيتس يناقض نفسه مرة أخرى في مؤلفه الجمهورية بقوله إن الإشهار بالعدالة يؤدي بأصحابها إلى فوزهم برضا الآلهة ونيلهم سعادات لا توصف تسبغها على الناس ونراه من جهة أخرى يقول أن طاعة الحكام هو العدالة ثم يعود ليقول إن مخادعة الآلهة والتغلب عليها مستحيلان (10) ثم أن أفلاطون يبذل اهتماما كبيراً بالحاكم وشخصيته ومؤهلاته وقدراته الفكرية الفلسفية قبل كل شيء فالحاكم عنده شخصية مقدسة وإن كان لا يعبر عن ذلك حرفياً ولكن بقوله الحاكم راع والشعب رعيته ثم ذكرنا اعتباره أن طاعة أمر الحكام هي العدالة يتطلب من الحكام صفات كثيرة تقع الفلسفة في مقدمتها فالحاكم الكفء في عرفنا فلسفي النزعة عظيم الحماسة سريع التنفيذ شديد المراس وكذلك قوله يلزم أن يكون من أكبر أعضاء الجسم الاجتماعي سناً وأوفرهم فطنة وأعظمهم جدارة وأعرقهم وطنية وأقلهم أنانية هؤلاء هم الحكام الحقيقيين ولكن أفلاطون مع ذلك ويبرر ذلك بمصلحة الدولة يقبل أن يمارس الحاكم الكذب مع أنها من صفات الرذيلة فإن جاز الكذب لأحد فللحكام فقط في مخادعة الأعداء أو في أقناع الأهالي بما هو خير للدولة (11)
وتستحق الملاحظة هنا : أن العدالة وضرورة تحقيقها والسعادات وأهميتها وجدلية الحوارات قادت بالضرورة وربما دون قصد مباشر من أفلاطون ولكن بداهة إلى فكر قيادة الهيئة الاجتماعية المولجة بتحقيق هذه الشعارات الأخلاقية / المعنوية بالإضافة إلى ضروراتها المادية بتقسيم العمل ضمن أفراد المجتمع . أما أرسطو فلئن أتفق مع معلمه أفلاطون من حيث ضرورة إيجاد هدف أخلاقي باعتباره الغاية الأسمى للدولة ثم أنه يصل إلى أن الهدف الحقيقي للدولة ينبغي أن يشمل ارتقاء مواطنيها خلقياً لذلك فقد تضمنت كتابات أرسطو في معظمها ليس سمات وشروط الدولة المثالية بل المثل العليا التي ينبغي أن تحافظ عليها الدولة . فالمثل الأخلاقية العليا هي عند أرسطو من الغايات الأساسية التي تقوم من أجلها الدول تلك المثل التي من بينها العدل وأخرى : كسيادة القانون والحرية والمساواة بين المواطنين والنظام الدستوري (القانوني) وهي عنه السبيل الأهم لبلوغ الغايات التي من أجلها تقوم الدولة .
ويوافق الأستاذ جورج سباين( ومع أنه قليل الاعتبار للعوامل الاقتصادية) أن دوافع التغيرات والإصلاحات هي في جوهرها اقتصادية فقد يدور البحث عن أنظمة واتجاهات ومبادئ سياسية ولكن الشأن الرئيسي هو اقتصادي إذ يقول الأستاذ سباين وهو من مشاهير علماء السياسة المعاصرين وكان مدار البحث هو : هل تدور أرستقراطية قوامها الأسر العريقة المالكة للأرض أو ديمقراطية قوامها المصلحة المتصلة بالتجارة الخارجية وهدفها تدعيم قوة أثينا في البحار ؟ وقد فاخر سولون بأنه قصد بتشريعاته المعاملة العادلة بين الأغنياء والفقراء. (12) ومن الضروري الإشارة ولو على نحو سريع إلى مصدرين كانا على الدوام محور أفكار العلماء والفلاسفة وهمت : الطبيعة وهي القوانين الإلهية التي يأمر بها الرب عن طريق ممثليه . والأعراف وهي ما تعارف الناس عليه من نظم كتقاليد غير مكتوبة إلا أنها ثابتة ومحترمة بصورة جماعية أو شبه جماعية وهي الأخرى اكتسبت قوة القوانين فجرى تدوينها كذلك أو بقيت عرفاً معروفاً يجري تداوله واحترامه بوصفه ضرورة أحكام جرى الاتفاق عليها اكتسبت قوتها من خلال موافقة المجتمع عليها والعمل بأحكامها . فتلك كانت أيضا واحدة من المعضلات التي واجهت المفكرين والفلاسفة. ومن ثم فإن القوانين على اختلافها ومنها القانون الأساسي (الدستور) والمفاهيم المتصلة به كانت موضع اجتهاد المفكرين والفلاسفة وموضع مجادلات ومناقشات لا نهاية لها .
وعلى هذا النحو فقد اعتبرت مفاهيم عديدة هي من قبيل القوانين الطبيعية كالمساواة والعدل فأخذوا يتفلسفون بها ويذهبون مذاهب شتى وغاصوا في قوانين الطبيعة حتى غدت جزءاً أساسيا من الفلسفة السياسية وما برحت الحقوق الطبيعية والقوانين الطبيعية والأعراف والقوانين الوضعية (تلك القوانين التي وضعها الإنسان) بؤرة تثير المناقشات والجدل في الفلسفة السياسية وعلى مدى القرون . وأفلاطون وأرسطو أعمدة الفلسفة أعتبرا أن : طاعة أمر الحكام هي العدالة والعدالة هي الحق وعلى هذا المنوال عمل فيما بعد أيضاً الفلاسفة في العهد المسيحي فالمسيحية التي تعرضت للقمع بوصفها حركة فقراء والفلاحون والفقراء يساندون أي حركة تحمل في أفقها العدالة أملاً في تغيير أوضاعهم البائسة ورفع الظلم الواقع عليهم وفي أول حلولها في أوربا تعرض دعاتها على الأوائل للاضطهاد والتعذيب والتصفيات الجسدية لكن ما لبثت أو وجدت الدولة الرومانية أن الديانة المسيحية قد تكون عاملاً يشد أرجاء الإمبراطورية من جهة ويمنحها (حقاً) إلهياً بالتدخل والتبشير الاستعماري وذلك تم حين اعتمدت الدولة الرومانية المسيحية ديانة رسمية في العام 350 ميلادية فأصبح رجال الدين (الكنيسة) وجهاء في المجتمع الروماني ما لبثوا أن أصبح لهم جزء من السلطة والسلطان في الدولة بل صاروا يتقاسمون السلطة مع القياصرة والأمراء وتناسوا العدل الذي بشروا به في بادئ الدعوة .
والانفجار المدوي ضمن الكنيسة تمثل هذه المرة ليس باتجاه توفيقي Compromise ضمن الكنيسة بل في حركة سيكون لها أبعادها الفكرية المهمة وستكون لها انعكاساتها السياسية والاجتماعية فهم أطلقوا على أنفسهم حركة الإصلاح الديني Reformation وأطلق عليهم آخرون بروتستانت Protestant أي المحتجون (مصدرها الاحتجاج) Protestanion باعتبار أن قائد الحركة الإصلاحية أعلن في بيانه الشهير : الاحتجاج على قرار طرده من الكنيسة الكاثوليكية وكان ذلك في مطلع القرن السادس عشر 1517 وقد سميت الحركة أيضا بالحركة اللوثرية مستخدمة هذه التسمية من قائد الحركة رجل الدين الألماني مارتن لوثر Martin Luther 1483 ـ 1546. ومثل هذه الأتجاهات تتكرر في التاريخ فعندما أشعل مارتن لوثر أوار الثورة في الكنيسة الكاثوليكية أعتمد على بادئ ذي بدء على الفلاحين والفقراء في انتفاضته ضد طغيان الكنيسة الكاثوليكية ومقرها البابوي حيث كان الأمراء والقياصرة موالون للمقر البابوي لاكتساب شرعية هم بحاجة لها يستقوون بها بوجه أمراء الإقطاع بيد أن تطور الحركة اللوثرية قاد في مفرداته إلى تناقضات بين بعض القياصرة الأمراء وأمراء الإقطاع من جهة والبابا وسلطة الفاتيكان من جهة أخرى بعد أن تعاظمت مطالب الفاتيكان ولا بعد استيلاء الكنيسة على أفضل الأراضي وتحولوا إلى قوة مادية إضافة لقوتهم الروحية فشق العديد من القياصرة والأمراء الساخطين القلقين على نفوذهم شقوا عصا الطاعة على البابا والفاتيكان واستعانوا بمارتن لوثر كحركة دينية مضادة للبابا ليكتسب الانشقاق في الكنيسة النفوذ والقوة . وكانت هذه عاملاً مؤثراً في تحول لوثر من نصير للفلاحين والفقراء إلى مناصر للأمراء والقياصرة وخذل الفلاحين في ثورتهم ضد طغيان الإقطاع اليونكرز المتحالفين مع القياصرة وأمراء الأرض عندما أكد مارتن لوثر في تعاليمه الدينية : لا يجوز للمسيحي مطلقاً عصيان القيصر والأمير.
وعندما آلت السلطة السياسية نهائياً إلى أيدي البورجوازية في أعقاب أحداث هامة شهدتها أوربا (ولم تكن أميركا بعد ثمة أهمية سياسية أو اقتصادية أو ثقافية بعد) كانت البداية في هولندا ثم في بريطانيا وبعدها في فرنسا كنتيجة طبيعية لعصر النهضة Renaissan-ce والتنوير الآثار الحاسمة للثورة الصناعية . ولكن الكنيسة الممثلة للمؤسسة الدينية التي كان نفوذها قد غدا سياسي واقتصادي إلى جانب الثقافي والاجتماعي وبوصفها احتكرت لقرون طويلة (حق) التفسير والتأويل ومنح الشرعية وحجبها في علاقة بينهم وبين الحكام (ملوك وقياصرة وحكام وربما حتى طغاة) خضعت لظروف تاريخية حتى بدأت تتلاشى بعد عصر النهضة والتنوير والثورة الصناعية .
إذن من يمتلك الحق ...؟
تعرضت مفاهيم الحق الفلسفية الأفلاطونية وشرائع القوانين الرومانية إلى اهتزازات عندما فرض عبر التاريخ الطرف القوي أو من يمتلك أسباب القوة أسس الحق بل وأكثر من ذلك فالقوانين التي صاغها الأقوياء والمتحكمون بالسلطة جرى تفسيرها وتأويلها وفقاً للمصالح الخاصة لتلك الأطراف القوية وفي العصور اللاحقة حدث ذلك بمزيد من إضفاء فنون الغش والتدليس والخداع على نحو غير مسبوق . ثم جرى كما هو معروف تفسخ التحالف بين الملوك والكنيسة وأمراء الإقطاع ولكن ذلك جرى بشكل تدريجي وعلى وتائر مختلفة في الدول الأوربية وعندما حل عصر الدول البرجوازية الدستورية في هولندا أولاً ثم في بريطانيا ثم في فرنسا ومتأخراً في ألمانيا وتلك كانت تطورات مترافقة مع عصر النهضة ثم عصر التنوير وأخيراً الثورة الصناعية وحقب الحملات الاستعمارية وكانت العلاقات الدولية قد دشنت مرحلة جديدة بانقضاء الحروب النابليونية وآثارها السياسية في أوربا وتلك مرحلة سادت فيها التحالفات والمعاهدات بين الدول من أجل تشكيل قوى سياسية مؤثرة في أوربا لم يكن الحق فيها سوى دهاء الدبلوماسية السرية لعبت بريطانيا فيها الدور الأهم في تطمين مصالحها في القارة التي يفصلها عنها بحر الشمال .
عصبة الأمم لم تكن إلا منظمة الأقوياء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية أباحت بشكل علني الاستعمار (كحق) في نص مشهور : حق الأمم القوية الأخذ بيد الأمم الضعيفة نحو التقدم وكانت حقوق الشعوب يجري التداول بها أروقة المنظمة بما يشبه التعامل في أسواق البورصة (أسواق السندات والأسهم) . في العلاقات الدولية المعاصرة أثارت المسألة العراقية وما زالت تثير الكثير من المناقشات الجادة حول جدوى القانون الدولي والأمم المتحدة وحقوق وضمانات الدول وسلامة الكيانات السياسية وكيف أستطاع حفنة من الرجال انساقوا وراء أهوائهم وقناعتهم الشخصية أن يقودوا بلدانهم إلى حروب دموية أفرزت نتائج كارثية على كافة المستويات وهذا الأمر لم يعد سراً ليس بعد كشف التحقيقات السرية والعلنية التي أجريت في بريطانيا والولايات المتحدة من أن الحرب ضد العراق كانت محض ألعاب مخابرات بعيدة كل البعد عن قواعد إدارة العلاقات بين الدول والقوانين الدولية حرب لها أكثر من بعد واحد أشعلت نيرانها ولم تنطفئ بعد، لا علاقة لها بالقانون ولا بشرائع هم أقروها ولا بضمير الإنسانية والرأي العام... القوة ليست الحق والقوة يمكن أن تستخدم بصورة بعيدة عن العدل والأخلاق.. وثمة حقائق أخرى فرضت نفسها في هذا المجال .
الدول الكبرى امتلكت من وسائل القوة ما يجعلها تستغني عن الحجج والإقناع والاحتكام إلى قواعد القانون الدولي وشرائع العلاقات بين الدول والأمم وقبول مبدأ أن للآخرين مصالح ينبغي احترامها . وأصبح الحق محصور بما تعتقده وما يتلاءم مع مصالحها الاقتصادية والسياسية . والحروب التي دارت في القرن العشرين أبرز مثال على ما نذهب إليه. ولا نعتبر الحربين العالميتين الأولى (1914 ـ 1918) والثانية (1939 ـ 1945) فقط بل وكذلك الحروب الكثيرة التي جرت في القرن العشرين والتي لم تكن سوى حروب اقتسام العالم بين الأقوياء أهمها حرب كوريا والحرب الفيتنامية الصراعات في جنوب شرق آسيا وحروب شبه القارة الهندية والحروب العربية / الإسرائيلية وحروب التدخل في أميركا اللاتينية بل يمكن الجزم أن الصراعات المسلحة بصفة عامة لم تكن إلا نتائج جانبية للتنافس بين القوى الكبرى ذلك أن جذور بؤر التوتر تكمن بهذه الدرجة أو تلك في أيدي القوى العظمى التي تحتكر القوة وبالتالي تحتكر الحق وفيما ينبغي أن يكون وعلى أية صورة . تلك كانت مرحلة استطاعت الدول القوية فرض الحق وتكيفه بل وحتى وضع الصياغات القانونية له وتأسيس مراحل وفق تصورات خاصة لا علاقة لها بمبادئ فلسفة الحق( الحق هو فيما تمتلك وليس فيما تستولي عليه) بيد أن الجديد هو أن تلك القوى العظمى وبكل ما تمتلكه من قوى مادية لم تعد قادرة على فرض منطقها وفرض مصالحها وأن ذلك يبشر بفتح صفحة جديدة في العلاقات الدولية .
فعلى سبيل المثال كانت القوة الهولندية المتواضعة كافية لتحتل الهند أو أجزاء منه في بداية حقب الحروب الاستعمارية التي كانت نتيجة للثورة الصناعية ثم انتزعتها بريطانيا بالقوة أيضاً ولكن هولندة الصغيرة استقرت في بلد كبير مثل أندنوسيا فترة طويلة ورحلت عنها عندما هبت رياح التحرر بعد الحرب العالمية الثانية وبفعل وعي أنتشر بين شعوب المستعمرات ولكن أيضاً بفعل حقيقة كبيرة هي وجود المعسكر الاشتراكي المناصر لثورات الشعوب مادياً ومعنوياً والهزيمة الأخلاقية للاستعمار الكولونيالي المباشر الذي بدا هو بذاته متخلفاً هبت الإمبريالية الأمريكية للحلول محله بأساليب عمل جديدة في إطار تغيرات شاملة ضمن المتربولات الرأسمالية وتطور كبير طرأ على نظام دولة الاحتكارات الرأسمالية من أبرز مظاهره هزيمة المحور الفاشي وتصدي الولايات المتحدة لقيادة العالم الرأسمالي وصياغة اصطفاف لمواجهة حركات التحرر والقلاع الاشتراكية والحركات العمالية المناهضة للرأسمالية في الدول الرأسمالية نفسها . ولكن ماذا جرى ... فقوة الولايات المتحدة المعززة بتفرد وفرض هيمنة لا سابقة لها في تاريخ العلاقات الدولية حيث تغزو جيوشها وتجتاح دولاً صغيرة، تفتقر في معظم الحالات حتى إلى الأسلحة المتوسطة ولكنها تعجز عن احتلالها بمعنى فرض أرادتها السياسية . رغم أنها تنصب حكومات تابعة لها وتوفر لها الغطاء السياسي الدولي وتقود زعماء وقادة تلك الدول إلى(محاكم) وتشكل (محاكم) جزاء دولية لتحاكم من يتمرد عليها فيما تمنع هي عن قبول حتى مبدأ خضوع أفراد من قواتها المسلحة للمسائلة القانونية هكذا تفهم هذه الدول الحق والحقوق في عصر الإمبريالية الجديدة التي يطلق عليها بالعولمة .
ولكن هذه القوى العظمى رغم امتلاكها هذه القوى الخيالية وامتلاكها (حق) إسكات الضمير الإنساني ومنصة القضاء الدولي وتقود جيوشاً عالمية أرغمت دولاً مهمة على الانصياع لأرادتها والانتظام في حملات عسكرية جرارة لكنها تعجز في النهاية عن تحقيق نصر ... سياسي أو عسكريت وتتحول تلك الحروب الباهرة إلى مآزق لا تدري كيف تنجو بنفسها منه. يقول المستشار الألماني الأسبق الحكيم هيلموت شمت : وبالنسبة لنا سواء في أفغانستان وكذلك في العراق قد أظهرنا أن الأمريكان وحدهم قادرين على كسب أي حرب يخوضونه ولكنهم في النهاية لن يستطيعوا بمفردهم أن يحققوا الاستقرار أو حتى السلام وقد تبين ذلك من خلال زيارة بوش الأخيرة في الأسبوع المنصرم (فبراير ـ 2005) أنهم لم يعودوا يحتملوه وإن كانوا قد توهموا ذلك ويبدو لي أن الرئيس بوش الابن وإدارته يقفون أمام عدد كبير من الخيارات والقرارات والمثال الأول: أنه لا توجد استراتيجية أمريكية مقنعة أو معترف بها حيال النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني وكذلك لا توجد استراتيجية واضحة حيال العراق . (13)
ومداخلة المستشار الألماني هذه يعود تاريخها إلى فبراير/ 2005، نضيف عليها الآن مأزقاً جديداً هو المجهول الذي دخلت فيه القوة في جبال هندكوش والنتائج التي ستسفر عنها مواجهة بين عشرات ألوف الجنود المدججين بأحدث الأسلحة بمواجهة شعب من الحفاة والعراة تقريباً في أمثولة ستمنح مفهم القوة والحق أبعاد جديدة يطلقون عليها الحرب مجازاً : ضد الإرهاب ونشر الأفكار الديمقراطية وكأن نشر الخير يحتاج لأدوات الشر وبهذا القدر الخيالي . في واقعية مريرة أقر الرئيس الأخير لدولة عظمى كالاتحاد السوفياتي أن تعديلاً ضرورياً لا مناص من إدخاله على المفاهيم التي تبدو أنها راسخة رسوخ الجبال الراسيات تلك المفاهيم التي جرى العمل بها كقاعدة نظرية لا تحتمل الخطأ : أن الحرب هي أستمرار للسياسة بوسائل أخرى (مقولة المفكر الاستراتيجي الألماني كلاوس فيتز) ويذهب غورباتشوف إلى التأكيد أن قاعدة كلاوس فيتز قد عفا عليها الزمن وأن الحرب النووية ليس فيها رابحون وخاسرون فهي إبادة للجميع بل وحتى المتفرجين ولا بد من الإقرار بالحقوق المتساوية لجميع الدول والشعوب في الأمن والسلام والتطور وبحق كل شعب اختيار طريقه دون التدخل في شؤونه الداخلية ولا يجوز نقل الخلاف الثقافي / الأيديولوجي إلى مجال العلاقات الدولية، وإخضاع السياسة الخارجية له لأن الأيديولوجيات قد تكون متنافرة أما مصلحة البقاء ودرء الحرب فهي المصلحة العامة والعليا.(14)
لا عيب في العودة للحق للتراجع وتصحيح الأخطاء وفي تلك شجاعة أدبية عظيمة والغرب طالما أتهم الأشتركيون ومذاهبهم بالدوغماتية (Dogmatik) ولكنهم يمارسون في عصر العولمة أشد أنواع الدوغماتية ولطالما سفكت دماء وانتهكت سيادة دول بأسم مبادئ الديمقراطية وها هو الغرب اليوم لا يقبل حتى بارتداء ثياب وملابس غير تلك التي يرتديها هو..!
* الحق في العلاقات الدولية هو أن تقبل بوجود غيرك وأن تقبل بالنظام الذي يقبله لنفسه المنبثق من أصالته من ثقافته ومن تراكمه السياسي والاجتماعي .
* الحق هو في الامتناع عن استخدام القوة .
* الحق هو أن يسمح لك بأن تعرض وجهة نظرك بسلام .
* الحق هو أن تكون لجميع الشعوب والأمم ذات الحقوق والمزايا الأمن للجميع السلام للجميع السيادة للجميع وحقوق التنمية والتطور للجميع .
أن صورة أخرى للعالم تطل علينا من بعيد لا نستطيع تقدير البعد ولكنه آت .. القابل النووية المختزنة سوف تفكك القوة آلة وحشية يرفضها العالم القوي لا يستطيع رغم قوته تنفيذ إرادته ها هي الولايات المتحدة تحتاج لوقوف أي دولة معها ولو بمئة جندي لتدعي الحق وأخلاق الحق . ولكن ها هم مئات ألوف الجنود يعجزون عن إنفاذ الإرادة الخاطئة لأنها تفتقر إلى الحق .
هناك من سخر عندما تراجع الاتحاد السوفيتي وتنازلت الاشتراكية ولكن التاريخ يثبت أنهم تراجعوا عن استخدام قوة كانت طوع أياديهم وتلك مأثرة عظمى للاشتراكية .
لسنا وجوديون ولكن نجد جملة ألبير كامو صحيحة للغاية : ليس هناك عادلون إنما هناك أسياد شريرون يجعلون الحقيقة سائدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
1 . سباين جورج : تطور الفكر السياسي ص36 القاهرة / 1971
2 .DUDEN Lexekon S. 651
3. صحيفة الجمهورية/ بغداد 1986
4 . أفلاطون : الجمهورية ص 9 بغداد / 1991
5 . أفلاطون: نفس المصدر ص25
6 . أفلاطون: نفس المصدر ص123
7 . أفلاطون: نفس المصدر ص7
8 . أفلاطون: نفس المصدر ص9
9 . أفلاطون: نفس المصدر ص23
10. أفلاطون: نفس المصدر ص49/26/52
11. أفلاطون: نفس المصدر ص30/65/76/80
12. سباين، جورج: نفس المصدر ص26
13. شمت هلموت : محاضرة في قناة فونيكس فبراير/ 2005
14. غورباتشوف ميخائيل: البيروسترويكا والغلاسنوست ص 161ـ163 بغداد / 1989
أن يقوم 100 ألف جندي أمريكي و160 من القوات الحكومية الأفغانية (82 ألف جندي حكومي 80 ألف شرطي حكومي) وعشرات الألوف من قوات 42 دولة بعمليات عسكرية تستخدم فيها أحدث التكنولوجيا الحربية وأسلحة دمار بهدف نشر الديمقراطية
إرسال تعليق