د. ضرغام الدباغ
درسنا في علم النفس أن الكذب هو في الواقع مرض نفسي ويسمى المريض علميا (عصابي) والمصابون بداء الكذب يكذبون لتغطية فجوة بين الحقيقة وخيال يطوف في أفكارهم . هو يتمنى شيئاً فيتخيله وربما يتصوره حقيقة (وهنا يتحول إلى مريض حقاً) وتتلبسه الحالة وفي درجات معينة يصبح لا يعيش في العالم الواقعي بل في الخيال .. في عالم افتراضي غير موجود سوى في خياله الثري .. حدث في السجن وأن تعرفت على حالات كثيرة، بعضها من النوع الخيالي .. من يتعاطاها يمتلك طاقة فنية كبيرة ...!
- جاؤا بطبيب (قدم نفسه على أنه طبيب) في حوالي الخمسين من العمر جاد رزين حدث ذات يوم وأن شرح لي مرض السكر (نقص أو عطب الأنسولين) شرحه لي شرح تام، مستخدماً كلمات إنكليزية . ولكني وبسبب مخالطتي للمتعلمين شعرت أن شيئاً ما غير صحيح، لا أعرف ما هو .. لكني لا أملك الحق في الاشتباه بشخص ... الاشتباه زال عندما عرفنا أنه سائق سيارة إسعاف في إحدى الأقضية ...! درس الطب سنة أو سنتين، ثم فصل من الكلية لأي سبب، فعمل سائقاً لسيارة إسعاف .
- وآخر يتحدث بكل جدية على أنه دكتور مدرس في كلية الزراعة ويشتكي : يا أخي ما يصير يحطون الدكاترة مثلنا ويه الناس العاديين ... وتبين أنه سائق لوري هينو .. في كلية الزراعة..
- وشخص آخر كذاب خطير يقدم نفسه للجميع على أنه ماجستير في الاقتصاد، ويتحدث ويتفلسف في الاقتصاد بجرأة ولكن يحرص أن يتحدث بغياب من يفهمون الاقتصاد . ذات مرة كان يتحدث عن أسلوب البحث العلمي فتيقنت تماماً أن لا علاقة للرجل بالعلم . وزميله في القضية قال لي ذات يوم " أخشى أن تكون قد صدقت أن (س) هو اقتصادي، فهو ليس أكثر من يعمل وزوجته في إنتاج كبة ويبيعها بشكل جيد وبعد الاحتلال شاهدته من على شاشة التلفاز يصرح: الدكتور .... الخبير الاقتصادي في مجلس الوزراء ... وبعد سنتين أو ثلاثة دبر لحاله لجوء سياسي في إحدى الدول الأوربية ...!
- كان في السجن شاب من أسرة كريمة ولكنه كان مبتلي بالكذب وأنا لدي حساسية ممن يكذبون ومع أنه لا يحق لأحد أن يكذب أحد ولكنك تشم رائحة الكذب بين طيات وثنايا الحديث فتشك ثم تتأكد وبالنسبة لي ينتهي أمري مع هذا الشخص ولا أطيق سماعه. كان هذا الشخص يتردد إلى مكاني في السجن ويجلس ويتحدث لي بأحاديث جميلة وأنا متأكد 100% أنها كذب ولكنه يرويها بشكل جذاب . ومن تلك مثلاً يروي لك عن سفرة قام بها إلى سنغافورة وهو لم يسافر أبعد من سلمان بك ..! والغريب أنه يروي ذلك بخيال لا يمتلكه أي روائي فيحكي لك قصته مع سائق تكسي أخذه مرة من مطار بكين إلى الفندق وفي الطريق دله على مطعم صيني يقدم البط بطريقة ممتازة ثم يروي تفاصيل دقيقة يجعلك تستفسر مستطرداً مثلاً أنه لاحظ صور على جدران بهو الفندق.. وكنت أضحك على نفسي بسماحي له بهذا الكذب.. ومرة قلت له، أنظر أنا أعرف كل ما ترويه كذب في كذب رجاء لا تضيع وقتي بقصصك ... هذا غير قصص مثيرة جداً ولكنها للأسف كذب وخيال ..
ـــ في أيام الحصار على العراق ساءت أوضاع السجناء فما يقدم من طعام كان ضعيفاً ومعظم ذوي السجناء كانوا يعجزون عن الإتيان بالطعام لأولادهم فكانت محنة. في قلب هذه الأزمة برز في السجن شاب له قدرة سحرية على خداع الناس .. يأخذ أموالهم على أنه يستثمرها ويصدق مع البعض القليل ولكنه في الأخير سلب أموالاً طائلة من النزلاء. وحين اكتشفت دائرة الأمن قصته عاقبته والغريب أن عاد وكررها بنفس الأسلوب ومع نزلاء ذاقوا التجربة الأولى ... فأين الغرابة هنا عند هذا المحتال أو عند ضحاياه الذين يطيب لهم أن يقعوا فريسة للأحتيال ..
آخرون يتفننون باختراع الأكاذيب ورويتها بطريقة مذهلة ومن المؤكد أنها تعبر على الناس العاديين ...
إرسال تعليق