ضرغام الدباغ
يتساءل الكثير من الناس بما فيهم علماء وأساتذة عن قضية هي في الحقيقة موضع التساؤل أيضا لإدارات وقيادات دول عديدة بما في ذلك دول متقدمة كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها. السؤال الأبرز الذي يمكن نصيغه وينطوي في ثناياه على أسئلة أخرى والسؤال هو " ما هي العوامل التي أدت لأن يبلور الشعب الألماني خصائصه الثقافية والسياسية والعلمية والاقتصادية ". هل بلغت ألمانيا هذه المكانة بصفة استثنائية ووفق معطيات وظروف خاصة ...؟ الإجابة هذا هذا السؤال هو نعم .. فالمسيرة الناهضة لألمانيا كانت فريدة حقا في طبيعتها فالظروف الخارجية كانت محبطة لأقصى درجة وابتداء نضع حقيقة مادية موضوعية في مقدمة تلك العوامل هي أن الشعب الألماني لم يبلغ وحدته القومية وسيادته كدولة معتبرة في أوربا إلا في وقت متأخر(1871) بفارق 121 عاماً عن بريطانيا وهولندة وفرنسا إذ كانت الثورة الصناعية (1750) قد نهضت وترعرعت في بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلدان غرب أوربا عموماً التي كانت قد استفادت من نتائج الثورة الصناعية وأثمر تقدمها عن الاستعمار ابتداء بإقامة المراكز التجارية ثم مستعمرات جرى نقل المواد الخام بكثافة إلى البلدان الصناعية ثم تطور الأمر في استعباد الملايين من القوة العاملة في تلك البلدان في الإنشاءات والأعمال اليدوية وفي استصلاح الأرض ثم سيق أبناء تلك البلدان كجنود في الجيوش الاستعمارية في عملية الضم والإلحاق لشعوب وبلدان أخرى واستخدموا في سائر عمليات الصناعة والإنتاج .
إذن العائق الأول كان التأخير 121 عاماً عن الدول التي استفادت من الثورة الصناعية ويرى بعض المؤرخين وهو عائق يراه البعض عاد بالفائدة إذ استطاعت ألمانيا أن تستفيد من أفضل منجزات الثورة الصناعية متجاوزة فترة البداية . ولكن ما لبثت أن أطلت المشكلة الثانية والتي هي في الواقع من متفرعان الثورة الصناعية وعصر الاستعمار إذ قادت إلى تنافس وحروب بين الدول القوية على قيادة أوربا وعلى النفوذ وحيازة المستعمرات والسيطرة على الطرق الملاحية في أعالي البحار فخسرت دول ضعيفة العدد والجيوش كهولندا وبلجيكا وأسبانيا في سباق التنافس ولكن الصراع بين القوى الكبيرة قاد إلى الحرب العالمية الأولى وبنتيجته خسرت ألمانيا والنمسا كدول صناعية مهمة مواقعها القيادية وتكبدت خسائر فادحة في الأرواح والاقتصاد والممتلكات وفرضت عليها عقوبات قاسية الغرض أن تحول دون أمكانية تحقيق نهوض صناعي واقتصادي كبير . ولكن الشعب الألماني المناضل من أجل وحدته وتقدمه رفض العقوبات وقرر النهوض بإرادة كبيرة ولكن هذه الطموحات (جرى بعضها بقلة صبر وانفعال) ترجمها الحزب النازي إلى طموحات توسعية اعتدائية دفعت البلدان الأوربية إلى التكتل وقادت هذه بمحصلتها إلى الحرب العالمية الثانية بنتائجها المعروفة . في الحربين العالميتين خسرت ألمانيا نسبة مهمة من شبابها ومن قوة العمل وخسرت اقتصاديا وفي الممتلكات ما يكفي لأن تستغرق عشرات السنين في عملية إعادة إعمار تكلف وقتا وجهداً ومالاً أكثر من عملية البدء ومعالجة جراح ( ما زالت تنزف حتى الآن )مشكلات اجتماعية وثقافية ولكن توفرت للشعب الألماني إرادة والأزمة / المأساة دفعت قيادات مخلصة ونزيهة إلى التناهض ومواجهة الكوارث بشجاعة لبناء دولة صناعية علمية من بين الأنقاض ومجتمع متقدم يتفوق على مجتمعات الدول الأوربية المتقدمة بل ويتصدر دول العالم . كيف توفرت للشعب الألماني هذه الخصال هناك من يقول أن هذا الشعب له صفات منذ الخليقة أو مترافقة مع الولادة ويؤسفني أن أخالف هذه الآراء فالبشر متساوون في القدرات والمواهب وإن كان هنك جينات متوارثة من ألاف السنين فقدرها ضئيل وبتقديري الأساس هو النظام والقانون والانضباط .. قرأت مقولة للشاعر الألماني الكبير يوهان فولفغانغ غوتة يقول فيها أن الشعب الألماني معذب يعاني الألم لفقدانه المتواصل عبر التاريخ لوحدته الوطنية والألم يدفعه للتماسك ويحثه على النهوض وأجتراح المعجزات الألم عنصر دافع وخلاق يدفع الشجاع للصمود ويدعوه للنهوض ... وهكذا خلال سنوات قليلة جداً الألمان يقدمون المساعدات وينقذون اقتصادات دول أوربية متقدمة ....!
هل هذا كل شيء في معادلة إحراز التقدم .....؟
كلا بالطبع تجمع أراء الخبراء بعد دراسة عميقة أن سر معادلة التقدم الألماني هو بالتأكيد " التعليم " نعم التعلبم بكافة مراحله من الحضانة وحتى التعليم العالي بكافة درجاته . والدولة الألمانية تعتبر أن الطفل هو ليس ملك لوالديه فقط بل هو ملك المجتمع والوطن لذلك يحرصون على أن يقضي الطفل / الطالب أفضل وقت اليوم بأيدي معلميه ويمارس ليس فقط تعلم المادة الدراسية فقط بل المعارف الأساسية في الحياة في التعامل والتهذيب والتصرف السليم في كافة الحالات التي يواجهها فهو يفكر ويأكل وبلعب ويتعامل مع زملاؤه أمام أنظار الأساتذة الذين قد تلقوا تعليما أكاديميا عاليا طويلا على أيدي خبراء واختصاصيون في التربية ومن المؤكد أن تعليم الطفل أصعب بكثير من تعليم اليافع لذلك يخصص لمدارس الأطفال أفضل الكوادر التعليمية وتتلقى تعليما راقياً والنتائج هي لدينا أطفال تعلموا كل شيء في الحضانة والروضة والتمهيدي قبل دخولهم مرحلة الابتدائية . ومن بين أهم ما يتعلمه الأطفال هو الانضباط العالي ليس على الطريقة العسكرية ولكن ليس بعيداً عنها ...! وفي مقدمة ما يتعلمه الطفل احترام المسؤل والمدرب ويعلمون الأطفال تهذيب السير في الشارع والإطاعة التامة للعلامات المرورية والإرشادية وكيفية التصرف في الملاعب العامة والحدائق والعناية بالبدن والثياب . أما في المدارس الابتدائية فصاعداً فيتعلم السباحة ومعالجة الأعطال في البيت(تصليحات) والضرب على الآلة الكاتبة (حاليا الكومبيوتر) وصبغ جدران البيت والدروس الأولية في الصناعة واستخدام العدد .
التعليم ليس فقط الدروس المنهجية المدرسة هي صورة ما يريده المجتمع أن يكون الحال عليه ...! بعد المرحلة المتوسطة لا يذهب جميع الطلبة للجامعة بل أكثرهم يتجه للمدارس المهنية ليدرس سنتين لأي مهنة حتى العمل كنادل في المقهى .. أو المطعم بعد الدراسة الثانوية لا يتجه جميع الطلبة للجامعة بل الكثير منهم يتجه للمعاهد الفنية ليدرس لسنتين . أما دراسة الماجستير والدكتوراه فهذه لا يقبل بها بسهولة إذ يتم توجيه الطلبة نحو المادة والتخصص بناء على حاجة التعليم لهذه الشهادة . ويقضي عمره في ممارسة تخصصه فليست هناك شاردة أو واردة قد فاتت عنه وقد صادفني بروفسور ألماني يعرف أثيوبيا أفضل بكثير .. بكثير جداً من رئيس جمهورية أثيوبيا فالأول يدرسها علمياً منذ لا يقل عن 36 سنة وأما سيادة الرئيس فجاء على ظهر دبابة أثيوبية أو أجنبية ...! هذه بأختصار شديد مراحل التعليم وتدور بدقة تامة وبآليات لا تقبل الخطأ حتى بأبسط درجاته فالخطأ الصغير في الروضة ربما يسهل إيجاد الحل له ولكنه سيكون أكثر صعوبة كلما تقدمت المراحل . ولا مجال مطلقا لأي تقدم دون أن يتمتع صاحبة بالكفاءة التامة ويقبل في الوظيفة بعد أختبار دقيق . الوظيفة ليست طريقة للعيش بل لخدمة الناس والمجتمع ويجب أن يتأكد المديرون بنسبة 100% أن الموظف يتلقى راتبه بقدر استحقاقه بدون أي زيادة وإضافة ولكن بدون نقصان أو ظلم... وهكذا تخلق جهازا إداريا في الدولة قادر وكفوء ومجرب ومتعلم ومختبر احتمال حدوث خطأ نادر جداً . ففي ساعات بعد منتصف الليل يمتثل المشاة أو السيارات للوقوف للضوء الأحمر رغم الخلو التام للسيارات أو المارة ... العبرة ليس في ما تراه بل باحترام القاعدة القانونية والنظام لذلك يخلو المجتمع الألماني من مئات المشاكل المألوفة في دول أخرى .... هذه هي كلمات السر للتقدم توصلنا لها بعد الدراسة والتدقيق..... التربية ... التعليم ... التدريب ... النظام ... الانضباط ...
إرسال تعليق