ضرغام الدباغ
يوم 20 / تشرين الأول / 2002 مشهد لا ينسى أتذكره بعمق شديد أتذكر تفصيل التفاصيل لدرجة أن أكاد أسمع أنفاس الناس وصيحاتهم ,فرحهم .. أتذكر ذهول البعض لدرجة كانوا يسيرون غير مصدقين .. كانت الدولة تصدر بين مدة وأخرى (سنتين أو ثلاثة عادة) مراسيم عفو عن النزلاء بعامة. وتشمل السجناء السياسيين ولكن دائماً مع وجود استثناءات في هذه المراسيم معظمها في الجرائم الجنائية ولكن في الأحكام السياسية أيضاً . وكانت الدولة قد أصدرت قراراً (تموز / 2002) بالعفو وتخفيض كبير للمحكوميات أستثني (الجرائم) السياسية الأحكام الخاصة الماسة بالأمن الخارجي من الشمول بما يسمى بالإفراج الشرطي أي إطفاء 25% من مدة الحكم إذا أثبت السجين حسن السيرة والسلوك داخل السجن وأغلب الظن أن مثل هذا النظام معمول به في كثير من بلدان العالم ربما بآجال وشروط متفاوتة . ولكن شمول السجين بهذه الميزة يستدعي نيل موافقة إدارة السجن وتأييد الباحث الاجتماعي والمحكمة التي أصدرت حكمها على هذا النزيل .
وفي العراق كان النزيل ينال هذه الميزة تلقائياً على وجه التقريب أي من دون الرجوع إلى رأي إدارة السجن والباحث الاجتماعي وحسناً فعلوا وإلا كان في ذلك قناة جديدة مضافة للابتزاز والرشوة . على أية حال كان النزلاء السياسيون مستثنون من ميزة 25% ما عدا سجناء قضايا الأمن الداخلي وهؤلاء كانوا يعدون على الأصابع .. ولذلك فالحبس المؤبد كان يعني قضاء 20 سنة كاملة فيما كان نزلاء الجنائية يمضون 15 سنة وخمس سنوات ليست بالأمر البسيط ....! وبالإضافة إلى هذا الاستثناء (أكمل عدد كبير من النزلاء مدة الحبس المؤبد 20 عاماً في السجن السياسي كانت مراسيم العفو تستثني من الأحكام السياسية قضايا التجسس بدرجة رئيسية والمحفظين من الإعدام . فيما كانت المواد المستثناة من الجرائم العادية هي : المخدرات، الزنا بالمحارم، اللواطة . والرشوة، ويضاف إلى القائمة، جرائم القتل العمد (لاسيما تلك التي لم يحصل فيها تنازل من ذوي المجني عليه) والسرقات الليلية، اختلاس أموال الدولة . وفي بعض السنين أضيفت قضايا التزوير (العملة بصفة خاصة، والشهادات الدراسية).
وقد عاصرت شخصياً حالات عفو كثيرة كان القاسم المشترك الأعظم فيها بالنسبة للسجن السياسي (قسم الأحكام الخاصة) : التجسس وبدرجة أقل المخفظون من عقوبة الإعدام وقد حدث في عفو العام 1991 أن شمل نزلاء مخفظين من الإعدام ثم علمت من مصادر خاصة أن شموله بذلك العفو كان أمراً مقرراً (وكنت قد أمضيت 5 سنوات كاملة) وكان اسمي مدرجاً في قوائم العفو إلا أنه شطب بتوجيه من جهات عليا وكنت بصفة عامة يائساً من مراسيم العفو. وكان عفو 1991 كبيراً إذ لم يبق في السجن إلا اقل من 4% من السجناء السياسيين وعلى وجه التحديد قضايا التجسس وبعض المخفضين وتأخر العفو التالي أربعة سنوات ففي تموز من العام 1995 صدرت مراسيم للعفو لم يبق في السجن إلا أقل من مائة نزيل ربما 94 نزيلاً . ثم مرت سبع سنوات طويلة تدور في خلاله الشائعات والأخبار وتفوح روائح العفو ومؤشراته ويبدأ النزلاء بالمراهنات وتروج المشاريع والمخططات وما إلى ذلك من مشاعر لا يعرفها إلا من عاناها فحقاً قيل :
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ....... ولا الصبابة إلا من يعانيها
في أكتوبر / 2002 كانت الجولات قد بلغت الستة عشر ولكن برغم تراجع حالتي الصحية كنت في قمة تألقي ونشاطي الكتابي / الفكري وكنت قد أنجزت تحديداً عام 2002 أعمال صعبة ذات أهداف علمية العمل فيها مضنٍ وترجمات لأعمال فنية احترافية غنية بالمصطلحات الصعبة (تحليل فني لأعمال مايكل أنجلو) بعضها مندثر وأعمال روائية جميلة كنت أعمل بلا توقف وقد تحولت إلى ما يشبه الماكينة التي لا تتوقف لم أكن أعمل تحت شعار قتل الوقت بل دفاعاً عن النفس وحفاظاً على النوع مواصلاً إبقاء شعلة الحياة موقدة كنت أعمل دون هوادة وكانت فكرة الهزيمة قد أصبحت بعيدة ولكن هدفي تجاوز الحفاظ على الذات كنت أريد النصر على السجن . كنت قد وطّدت العزم على قضاء الأربع سنوات الباقية بل وحتى الاستعداد لاحتمال تمديدها وقد عايشت بنفسي عدد من الحالات كاد السجن أن يفرغ فيه من السجناء ولكني كنت دوماً ممن تستثنيهم قرارات العفو وكان السجن يخلو من السجناء تقريباً ولتلك وحشة ومشاعر لا يعرفها إلا من يعانيها من يستطع أن يدرك عمق الألم ... وتلك تجربة نادرة ولكن ثمنها باهظ ... باهظ للغاية .. 16 جولة من المصارعة أو الملاكمة كنت قد أنهيتها لم تنل مني ولم تحطمني أو تهزمني ولم أفكر برفع الراية البيضاء ممزقاً كل احتمالات اللون الأبيض إذ استقر في نفسي نوع من التعامل مع الواقع الموضوعي بمرونة شديدة وبترفع وكبرياء . في زنزانة واحدة استوطنت فيها سبع سنوات وأنا الذي لم أكن لأمكث في بيت أو مكان أكثر من أربع سنوات إذ كنت كثير التجول والتنقل لم تكن فسحة لتستوعبني فقد سرت على اقدامي مئات الكيلومترات وعبرت الحدود عشرات المرات خلسة كنت قد تخليت منذ عهد بعيد من رهبة العبور في نقاط الأمن العام وفي المطارات بجوازات سفر مزورة وعانيت من الإقامة غير المشروعة في عواصم ترحب بالخونة والمرتشين وعانيت من التشرد بكل مظاهره . كنت أرى كل ذلك العذاب أشهى من العسل من أجل أن يغفى الأطفال بأمن وسلام في بلادنا من أن يبزغ القمر ليناجي العشاق الحالمين بالغد من أجل الفرح والضحكات من القلب من أجل ذلك وضعت في السجن ستة عشر عاماً لم يكونوا يريدون سوى روحه وهو خسر كل شيء إلا روحه ..!
كنت قد ناقشت الأمر في نفسي وانتهيت من ذلك مبكراً .. في السنتين الأولى من السجن ثم قررت أن أقيم الألفة مع السجن وأن أتآلف مع معطياته والألفة شيء خطير ... هي أن تعتاد أمراً بدرجة أن يكون شيئاً منك فلا يعود سبباً للمعاناة المقوضة للنفس . لك أن تعاني ولكن لتبدع لك أن تعاني ولكن في تجربة صالحة للتعميم . كنت قد توصلت إلى قناعة أنه لا بد من اكتمال خط الدائرة لننتقل إلى المربع أو المستطيل لابد أن تستوفي أي مرحلة ظروفها التاريخية لتنضج ظروف المرحلة المقبلة والأمر يحمل دائماً وجهين فلست دوماً منتصراً ولست دوماً المنهزم ولكي تبقى متحداً مع ذاتك عليك أن تلعب اللعبة بحذق وصبر واحتمال كما ليس لك أن تستهين بقوة الرياح .. واصل السباحة في بحر المستحيل .. سيقول لك عابر سبيل مهلاً .. ويقول لك كاسب على باب الله تمهل ... ويقول لك مغفل متكاسل لا تفعل وسيقول ممتهن للنعاس لك لا تصهل أما الأحلام والساحات والليالي فتقول لك .. هيا انطلق كذئب البراري اقتحم خوفك وقلقك واصهل ... اصهل كخيول غورنيكا متحدياً ظمأك ابحث عن ذرة رمل على شطآن بحار لم تغسل .. أنقذ أنكيدو من الأفعى ...أنت كنت قد تخليت عن الآمال الرغيدة بالعيش الهانيء كنت قد رهنت حياتك للأرض وقبلت الإبحار في بحر الموت الأسود المتوسط .. حيث تنقلب الأسماك الصغيرة مقلوبة على بطونها مغلوبة على أمرها وأنت تطوف في الأحياء الخلفية توزع المنشورات تحلم بليلة تنام فيها آمناً .. مستفيقاً بالحرية.. واصل امتهانك للحياة .. واصل عنادك الطفولي .. تقبّل نصال الحراب المسددة إلى صدرك لا تطلق الآه .. وتقبل أنك خسرت حبيبة العمر والأفياء... كن عالي الجبين ... ولا تيأس ...!
كتبت مرة :
سفينة فضائية تطير نحو كواكب مجهولة تطلق نيراناً شعاعية صوب أطياف ومراكب مأهولة .. تحترق السفينة فتسقط كحجر ثقيل على كوكب غير معروف بدقة في بركة مياهها خضراء تفر قطرة ماء تسقط على ذراع عروس تنظر طالعها ... تقفز فزعة ... أماه تدرك الأم ما الخطب فتفر من عينها دمعة حمراء .. من الذهب والفضة نهران .. وفارس على صهوة جواد أبيض والجواد ذو جناحان هديته لها ... أقمار ونجوم وتفاحتان يتطاول حافر حصانه يستطيل ثم يتدور في دائرتين ثم يرسم دوائر ضوئية فتستحيل العينين ناراً ونوراً .. وجمرتين .
كتبت له مرة :
ـ أنت تكتب بتعبيرات معقدة ..
نظر إليها بعمق ... هي كانت تعرف أنه يحبها ولكن لحسن الحظ لم تكن تعرف المدى ...
ـ لست أنا المعقد بالعكس الواقع هو المعقد .. وأنا أحاول مجرد أن أشرح...
كان قد قطع وهاد الصحاري وصادف أنواع الغيلان والأفاعي كان هذا البحر المتلاطم الأمواج من البشر يجاهد في تحمل النوء كان هناك من تساقط دون الشاطئ صريعاً قتيلاً أو فاقداً لرشده وبعض قد بلغ مشارف الشاطئ ... هو كان من بين هذا البعض . ففي ظهيرة يوم 20 / أكتوبر / 2002 جاء من يهمس في أذنه أن الأبواب ستفتح وسيقال للسجناء : اذهبوا إلى بيوتكم. ضحك كثيراً حتى دمعت عيناه .. فمثله لم تعد الدعابات لتهزه ولكن من همس رفع صوته وصرّح وحلف وكرر .. ثم جاءه أحد زعماء المافيا وهو معتمد لدى الآليين ويعمل لديهم كمحصل ضرائبوحلف أغلظ الأيمان أنه شاهد اسمي بين الأسماء . في تموز من العام 2002 كان قد صدر فعلام رسوم عفو لا بأس به يشطب أكثر من نصف محكومية النزلاء لكنه مع ذلك استثنى المواد المعروفة وكنت قد أمضيت 16عاماً في السجن أي أكثر من ثلاثة أرباع الحكم ولم يكن العفو ضمن حساباتي لذلك كان التأثير النفسي بسيطاً ولكن الشائعات تواصلت وتفاقمت بل أن عناصر من الإدارة كانوا يروجون هنا وهناك أن عفواً قادما ًسوف يشمل الجميع من دون استثناء لكن ذلك لم يكن يهزني أو قل لم اكترث له كثيراً فقد أنهيت 16 جولة من المصارعة أو الملاكمة منتصرا أو بالأحرى لم أهزم فيها ولم يبق إلا القليل... القليل...... أربعة سنوات تخيل عندما تصبح أربعة سنوات وراء القضبان مسألة بسيطة....... يوم الأحد 2002 – 10 – 20 كان قد دعيت أحد الأخوة إلى طعام الغداء فجاء من يطلبني إلى باب القسم فذهبت وإذا بأحد المقربين للإدارة يخبرني أن العفو قد وصل السجن وسوف يذاع قريباً فاستعد وإلا فأنك لن تجد الوقت لرزم حقيبتك . وبعد دقائق أخبره أحد زعماء المافيا أن القرار سيعلن خلال نصف ساعة من الآن وأكد الخبر بما لا يقبل الشك وقال مشدداً : أن اسمك من بين أوائل الأسماء إذ سوف يطلق سراح 500 فرد حالاً والبقية غداً. وبدهشة وحيرة ممزوجة بشعور بالعجز.
ـ دكتور سوف لن يكون لديك وقت لترزم حقائبك ..
حقائب ؟ نحن مقيمين إقامة بخمس نجوم منذ ستة عشر عاماً وليس لدينا حقائب هناك مئات الكتب والدفاتر والأقلام ومستلزمات الكتابة وكيس مُلئ بالأدوية وضعتها في كيس للرز تطوع صديق بحملها لي وحقيبة أوراق صغيرة .. قررت أن اترك كل شيء ... وسط هرج ومرج وصراخ فرح وهيستيريا الحرية ونشوة شهقات ولا تسل عن معاني الأشياء ففي تلك اللحظة لم يكن من يدري ماذا يفعل .. لم تعد الممرات المؤدية إلى خارج السجن ممرات بل أنفاق تزخر بالسردين نظرت أن من المستحيل الخروج سليماً من هذا المحشر أما إذا صادفتني أزمة ربو فسيكون موتي مؤكداً.. ماالعمل .... آه ما العمل ... ارتديت بدلة الرياضة وقذفت بنفسي في التيار .. هي مجازفة أفضل من الوقوف على الساحل ومراقبة البواخر تطلق صفاراتها وترتحل .. لا شيء هنا سوى البرد والانتظار والضجر..... صراع سبارتكوسي مع القضبان .. سبارتكوس أنتصر على جلاديه وحين علقوه أصبح رمزاً للحرية من العبودية ..!
من ينتصر ..؟
ينتصر من يمتلك ثراءً داخلياً لا ينضب وقدرة على رؤية الغد ولدية مقص حاد يقطع خيوطه أو حباله مع خارج السجن يؤجل التناقضات الثانوية ...ينتصر من يمتلك بنية قوية تحتمل كل هذا الثقل الهائل وبصيرة تسعفه في رؤية معقدة وبتقنيات متقدمة .... ينتصر من ينجح بالخروج سائراً على قدميه ... غير محمول أو مدفوع بالكرسي المتحرك .. ينتصر من يمتلك رؤية صافية رأسه بين كتفيه عامراً ..
ينتصر من لم يلج عوالم الظلام واضحاً كالحقيقة ينتصر من لا يفور قلبه بالحقد الأسود .. ينتصر من لم ينخلع فؤاده من مكانه... ينتصر من يصرّ رغم كل شيء أن يبقى إنساناً والتصرف كالبشر .. هيا ... الأبواب مشرعة وليس مطلوباً منك سوى أن تحث الخطى .. ها أنت خارج السور الأول حراً للمرة الأولى بلا حراس بلا قيود حديدية في اليدين .. أنت حر للمرة الأولى منذ ستة عشر عام ..! ومثلي مثل قدامى النزلاء (سجين قديم) : مصطلح يطلق على النزيل بعد 5 نزلاء فأكثر لديه أغراض لا تكفيها إلا سيارة حمل بيكب 1,9 طن: ثلاجة مليئة بالأطعمة وتلفزيون ملون ومبردة هواء وخزانة ملابس وكم هائل من الكتب ومستلزمات الكتابة وأشياء أخرى كثيرة ولكن لابد من التفكير بسرعة إذن سنأخذ ما لا يمكن التخلي عنه. وطبعاً بالنسبة لي هنا : الكتب والدفاتر والأوراق وكيس الأدوية لأواصل مهمة العيش وتركت كل شيء... ورائي . وسط حيرة وذهول وصراخ وزعيق وتوديع وضجة ناداني أحدهم باللهجة البغدادية الحبيبة : يالله دكتور تره صارت هيته كما شاهد صديق مقرب لم ينس أن يهتف قائلاً : يالله دكتور قبل أن يبدلوا رأيهم . فخرجت أريد الممر أو بالأحرى حاولت الخروج إلى الممر فكان مشهداً قد يراه المرء مرة واحدة فقط في حياته الطويلة أو قد لا يراه مطلقاً.. كان الممر مكتظاً بالبشر وكأنه علبة سردين (وكانت إدارة سجن أبو غريب قد جلبت إلى قسم الاحكام الخاصة بضع مئات من السجناء العاديين من القضايا الجنائية) لا يمكنك أن ترى إلا الرؤوس ويستحيل الخروج من الباب والانضمام إلى هذا التيار . وكنت قد اختصرت كل ما أمتلك بحقيبة يد صغيرة كيس متوسط الحجم تكرم أحد الأخوة بمساعدته وكانت اعاني منذ سنتين من متاعب صحية (ربو وحساسية) ومستمراً على تناول جرعات قوية من العلاج (كورتيزون ومشتقاته) الأمر الذي أضاف المتاعب إلى وضعي الصحي فارتديت بدلة رياضية (تراكسوت) مع حذاء رياضة وغادرت القسم إلى الممر من باب جانبي عبر الساحة .
كانت ساحة القسم (المسمى ق1) في وضع عجيب لا يصدق الفوضى كانت عارمة وهناك من ترك قدر الطعام على الطباخ وخرج وهناك من غادر لتوه وأكواب شاي لم ترتشف بعد ويتصاعد منها البخار الثلاجات والمجمدات والتلفزيونات مبعثرة في كل مكان وكل شيء يصيب المرء بالذهول ووصف هذا المشهد السريالي بنحو دقيق وصفه ليس بالأمر السهل إنها فوضى خيالية فوضى لا تصدق : لقد فتحت أبواب السجن جميعها وقالوا للجميع هيا أذهبوا إلى بيوتكم ! هكذا.. من دون قراءة أسماء ومن دون قيود ربما أن شيئاً مماثلاً لم يحدث في التاريخ إلا نادراً . ألقى بنظرة أخيرة على ممر السجن الخالي حتى من الأشباح والجن بدا السجن الذي اعتصر ألوف الرجال وأحال بعضهم إلى أشباح بدا وكأنه مدينة مهجورة منذ الأزل .. وفجأة طرق سمعه لغة ألمانية فارتدت به الذكرى وكأنه يسير في شارع كورفورستن دام إنهما ألمانيان رجل وامرأة يتساءلان فيما إذا كان السجن لم يعد يحوي سجناءه .. همّ بالحديث معهما ثم تذكر أنه في الحرية منذ دقائق فقط .. دقائق فقط .. دعك من هذا ومما يورث المتاعب هيا انطلق .. هيا عانق الشمس والقمر الذي حُجِبا عنك ستة عشر عاماً .. كان طيلة فترة سجنه يتخيل خروجه من السجن في حالة الخروج العمودي (يعتبر النزلاء في ضرب من المنطق الهزلي أن لابد من الخروج يوماً عمودياً إذا خرج ماشياً على قدميه أفقياً إذا توفي داخل السجن فهو سيغادره إلى الحرية ميتاً محمولاً على الآلة الحدباء) ترى ما هو اليوم الذي سيخرج فيه السجين ليصافح الحرية وبأي صورة ؟ في أي شهر ؟ وأي سنة ؟ ماذا سيرتدي ؟ ماذا لو ..؟ ماذا ...؟ مئات من الأسئلة تعبر كلها طبعاً عن شوق وتوق إلى الحرية ليس إلا ... ولكن الواقع سيخالف كل التصورات. والتقديرات، وربما الأحلام.. وهكذا كان ... أما أن الخروج فجأة خلال دقائق... وعلى هذه الصورة الغير معهودة والغير مسبوقة، فهذا ما لم يكن في الحسبان لا بل حتى في الخيال .. كان على الزاحفين إلى الحرية اجتياز جدارين وبوابتين الجدار الأول غير شاهق وغير مهم فهو يفصل بين مباني السجن الإدارية والجدار الثاني شاهق وسميك (يليق فعلاً أن يكون جدار سجن) تطل بوابته مباشرة على الشارع العام كان الوصول إليه من السجن السياسي نحو 200 متراً سهل نسبياً والمسافة بين البوابتين إلى الشارع العام وهو طريق عرضه حوالي 8 أمتار وطوله ربما لا يتجاوز 100 متر أو ربما أقل من ذلك ومع ذلك فقد كان اجتياز هذه المسافة يمثل صعوبة خيالية...وبعد أن صرت وسط اللجة ندمت أشد الندم لإقدامي على هذه المغامرة ولو مكثت في مكاني على الإطلالة الموحشة للسجن أفضل كثيراً إذ شعرت أن المئة متر الأخيرة هذه هي أشبه بمسيرة الألف ميل الصينية المشهورة فقد أفارق الحياة ولا أنجزها... أليس غريباً أن تختصر 100 متر فقط رحلة عمرك كله .. السياسي والشخصي ... نعم هكذا كان نعم ... إنها مئة متر فقط... ولكن من أجل الوصول إلى قرب هذه البوابة أنتظرت 16 عاماً... أي أطول بكثير من زمن المسيرة الكبرى..! (التي لم تستغرق سوى عاماً واحداً) 16 عاماً ... مقابل ماذا ؟ ... فقط لأننا فقدنا الرضا.. فقط لأننا لا نجيد الحوار والاستماع ... كل هذه العذابات ؟ لماذا ؟ أليس الإنسان أثمن من أن يُعذّب ويُسحق... نعم مئة متر... وكان علي أن اقطعها رغم الإرهاق والمرض والربو والصدمة والضجة وهيستيريا الفرح والفوضى .. ووجوه تصافح الحرية... تشاهد السيارات لأول مرة، الطريق تسير دون حراس ولا قيود حديدية في اليد كان متعباً للذهن إلى درجة خيالية.... إنها مئة متر فقط ... وعليك أن تقطعها لا تفكر كثيراً هيا حث الخطى استجمع قواك كلها...هيا استعن بقوة أبطال الأساطير كما كتبت أنت مرة...! أستحضر صور الأبطال لا صور المهزومين ..! كانت هناك بوابة أخيرة وكان هناك آلاف البشر يدخلون عبر البوابة الكبيرة عرضها 5 ـ 4 متراً، والآلاف من الخارجين وهذه الآلاف من البشر كانوا من النساء والفتيات والأطفال والشباب والشيوخ وقد اختلط النزلاء السجناء الأحرار بذويهم أو بألوف الناس المحتشدين للتفرج أو ربما للمشاركة بالفرحة أو ربما بعضهم أدرك أنه سيشاهد شيئاً خيالياً .. ومن المؤكد أنه منظر يستحق الفرجة وهذه أشياء لا علاقة لها بالإنسانية إنه منظر فريد .. أن تشاهد آلاف الوجوه المخبولة من الفرح والآلاف المذهولة وآلاف مصدومة وآلاف لا تعرف بعد ما الخطب ..؟ كان هناك من يضحك وآخرون يبكون.. كنت تسمع الزغاريد والصياح.. فأنت تشاهد هيستيريا حقيقية في ملحمة بشرية لا مثيل لها حتى في الأفلام الهندية ... كل ذلك تشاهده حراً في الهواء الطلق في بث مباشر Live ألا يستحق ذلك العناء ؟ القادمين كانوا أضعاف بعشرات المرات من السجناء الخارجين كان الزحام شيئاً لا يصدق ولا يمكن تخيله ومن المؤكد أن من يسقط على الأرض (لأي سبب) سيلاقي حتفه حتماً دهساً تحت الأقدام أما إذا سقط منك شيء فلا تغامر بالتقاطه... وهكذا كانت هناك تلال من الأحذية والنعال وحاجيات لذلك كان كثير من الناس يسيرون حفاة بعد أن فقدوا أحذيتهم ونعالهم ولكنهم كسبوا حريتهم إن كانوا من السجناء أو من الناس فهذه المشاهد المذهلة لا يمكن أن تُنسى كمنظر. ثم إني كدت أن أسقط على الأرض مرتين بسبب التدافع ولكني سارعت ووضعت الكيس الكبير تحت ركبتي وبذلك أنقذت نفسي من موت محقق وخيل لي أن المئة متر اللعينة هذه أو قُل هذا الطريق لا يريد أن ينتهي... أبداً... كنا في الواقع لا نسير بل تحملنا الموجات أمتاراً إلى الأمام ثم تعيدنا موجة أخرى أمتاراً إلى الخلف فتذكرت كتاب لينين الشهير خطوتان إلى الأمام خطوة إلى الخلف فضحكت مع نفسي وقال: والله لن تغير من نفسك وواصلت السباحة في بحر البشر. في هذه الملحمة الخرافية شب نزاعين أو ثلاثة احدهما تطور إلى ما هو أكثر من الشتائم إلى تبادل اللكمات وما تيسر بأيديهم أما أنا... فقد أحسست أن أنفاسي تتقطع واجتاحتني نوبة ربو حاولت إخراج البخاخ الذي كنت أحتفظ به في جيبي إلا أني تذكرت أن البخاخ في الحقيبة اليدوية فكم ندمت لأني لم اضعه في جيبي إذ شعرت أن كمية الهواء في الرئتين قد نفذت وأنا على وشك الدخول في إغماءة، وكنت أؤخذ عادة لمستشفى السجن لخيمة الأوكسجين ولكني شاهدت البوابة وكانت قد أصبحت قريبة جداً ربما عشرة أمتار فقط، فقلت لنفسي : لا تفعلها أبو فراس وتموت أتموت من العطش وقد وصلت إلى حافة النهر ؟ .
كنت ادرك أنها أمتار فحسب وفي تلك اللحظات العصيبة المليئة بمختلف المشاعر كان سر الحياة قد غدا مكشوفاً ها أنت في الحرية... هذا هو اليوم والساعة واللحظة التي تنتظرها 16 عاماً وها أنت تلعب على الدقائق ليس إلا ..! تذكرت رواية جان بول سارتر دروب الحرية ففي الجزء الثالث الحزن العميق مقطع كنت أحب إعادة قراءته : في أحداث الحرب العالمية الثانية كان بطل الرواية الفرنسي ماتيو مكلفاً بحماية رأس جسر وعليه أن يعطل تقدم العدو ويمنح زملاءه الفرصة بالانسحاب... كلّفه القائد: 15 دقيقة فقط... أصبحت حياة ذلك المناضل المثقف تساوي 15 دقيقة فقط عليك أن تصمد فيها يا ماتيو إنها ضرورية لشرف الوحدة العسكرية لشرف الجيش لشرف فرنسا وشرفك الشخصي.. 15 دقيقة فقط عليه أن لا يدع أحداً من الأعداء أن يعبر ذلك الجسر اللعين.. لماذا لم ينسفوه..!هيا أطلق النار على ذلك الجندي الذي يريد أن يعبر الجسر طلقة على ذلك ذو الشعر الأشقر دقيقة وعلى ذلك الضابط المتباهي بمنظاره 13 دقيقة وطلقة على ذلك الفارس 12 دقيقة طلقة على تلك العربة 11دقيقة كان يطلق النار ويطلق.. على الغراميات الفاشلة على أحلامه التي لم تتحقق على هذا وعلى ذاك استمر يطلق النار 15 دقيقة وسقط ماتيو وكان حراً وكان تقياً وكان أبياً . تذكرت هذا المقطع .. كان لابد أن أقطع هذه الأمتار القليلة الباقية.. كما أنهى ماتيو الخمسة عشر دقيقة وكان حراً وكان تقياً وكان أبياً .. لكن ليس ليموت بل ليحيا بقوة .. ولكن اللعنة على الربو، وتذكرت في تلك اللحظة أني قلت لرفيق مناضل مرة : إذا أردت أن تخفف من ألم التعذيب أثناء التحقيق تذكر أوبرا الشرق أحمر الصينية (وكانت هذه المسرحية فقرة أساسية في إعادة التثقيف في الصين إبان الثورة الثقافية وهي زاخرة بالصور والمعاني) فضحك الصديق ولم يجب وبين هذه الفكرة وتلك قذفتني الموجة العاشرة وما أكرمها(عطفاً على لوحة آيفوزوفسكي الموجة التاسعة ..!) إلى خارج البوابة الكبيرة وأول ما فعلته هو أن أتنفس بعمق مرة ومرتين ثلاثة أربعة شهقات سريعة متلاحقة ثم أسرعت بكل ما بقيت لدي من قوى وكانت ضئيلة للغاية إلى الرصيف الذي يقف عليه مئات الناس تدافعت وخرجت إلى ربما مسافة عشرة أمتار من الشريط البشري الذي يحاذي الشارع العام ثم قذفت بنفسي إلى أرض عشب فيها مهملات كثيرة دفعتها بقدمي وارتميت على الأرض، غائباً عن الوعي تقريباً . وبعد دقائق استعدت قواي واستخدمت البخاخ الذي يعين مرضى الربو على فتح مجاري التنفس تناهى إلى سمعي الكثير من التعليقات من حولي فدهشت... للمبالغات ترى ماذا سيقول الناس بعد 50 سنة من الآن ؟ فسألتني امرأة مسنة إن كان من السجناء ؟ فأجبتها دون تفكير بالنفي. لعلمي أن مئة سؤال آخر سيعقبه ثم خطر على بالي أن أسير صوب المدينة فالبقاء هنا لن يؤدي إلى شيء الحركة حتماً الأفضل دائماً.. ألم يقل برشت : لا تقف على الشاطئ اقذف بنفسك إلى الأعماق..
كنت قد نسيت كم هي المسافة إلى المدينة مع أني كنت قد قطعت هذه المسافة عشرات المرات وبينما انا سائر... بل أشبه بالهائم على وجهه وللمرة الأولى في حياتي، أشعر فيها أني لا افكر .. ربما لا أمتلك القدرة على التفكير مذهولاً مبهوراً متوجساً من الآتي مما نعلم ولا نعلم ..! لا أعرف ماذا أفعل لا رأي عندي في هذه اللحظة ولو أن طفلاً اقترح عليه بالتنحي والجلوس لفعل ! الطريق إلى أولى الأحياء كان يعج على جانبيه بكل شيء : سيارات من كافة الأصناف والأحجام وبشر يسيرون على الأقدام بعضهم يحمل أشياء تافهة بعضهم حفاة نساء وأطفال... أشياء غير مفهومة ولماذا الفهم..؟ ها أنك تشاهد عيانياً كل شيء : المعقول واللامعقول فليأت ويشاهد كتاب مسرح المعقول واللامعقول مناظر إنسانية رهيبة ومناظر وحشية قل ما تشاء وتصور ما تشاء فهذه ساعة لا ينفع فيها العقل والتفكير والمنطق... إنه حدث من الأحداث النادرة وبالفعل كان هناك الكثير من الإعلاميين من البلد وأجانب بل وحتى كانت هناك طائرة عمودية (هليكوبتر) واحدة أو اثنين تحلقان فوق المنطقة علم فيما بعد أنها كانت تصور هذه اللوحة الفريدة من الجو... كان طريق السجن قد تحول إلى مجاهل الأمازون وأفريقيا . أما المشهد بباب البيت فكان شيئاً لا يصدق، وأنا لم أشفق على نفسي بل والله أشفقت على هؤلاء الأصدقاء والأقرباء كلهم الذين سببت لهم هذا التعب النفسي والبدني. كان لقاء عاطفياً إلى أقصى حد فسرعان ما تقاطر الأهل والأصدقاء والجيران. والجميع أدى واجبه وأبدى المحبة والود الكثير. بل أن بعضهم أجهد نفسه ليجد مسكن أخي هشام . كالصديق الوفي الدكتور عبد الكريم هاني والدكتور هلال عبود البياتي والدكتور محمد الخياط أما شقيقتي الدكتورة سهام أم غسان وزوجها الدكتور لؤي العاني وأخي نجاح حياوي فقد خرجوا بسياراتهم يبحثون عني في طريق أبو غريب الذي تحول إلى مجاهل الأمازون وأفريقيا. واستغرقوا ساعات حتى نجحوا في إيجادي وكنت في دار أخي هشام . بدأت باستعادة وثائقي المهمة وكانت كلها قد فقدت أو صودرت واستغرق ذلك وقتاً وجهداً برغم المساعدات كنت أتصرف بدقة من دون تسرع أو أرتباك والواقع كانت بغداد الحبيبة الساحرة أروع من أن يسرع المرء بمغادرتها وكنت بين شوق لعائلتي يشدني بقوة وبغداد من جهة أخرى ولكن!.... هي ستة وعشرين يوماً أمضيتها في بغداد شاهدتها من جديد، تعرفت على شرايين روحي بغداد هي بغداد لن يتغير فيها شيء وهكذا ستجدها بعد ألف عام، إن طابع الأشياء الأصيلة لن يتغير والمدن ليست حجارة واسمنت واسفلت للشوارع إنها أشياء تشكلت في جينات الناس :
لك هلو عيني... أين تسمع هذه الجملة سوى في بغداد؟..
لك فدوه أروحلك..
بشرفي أموت عليك!..
لك داد والله مشتاق لك!..
والله والله...... لن أقوى على الكتابة أكثر فقد امتلأت عيناي بالدموع..
اكتشفت أن الجب كان أعمق مما يعتقد وفي السنة العاشرة اكتشفت أن الجب الذي سقطنا فيه بعيد عن طريق السيارات والسابلة وبعد خمسة عشر سنة كانت روحي قد استطالت وكادت تبلغ حافة الجب وفي السنة السادسة عشر حدث سيل كبير فامتلأ الجب بالماء ورفعتنا إلى حيث تتصارع الأمواج والحيتان والدلافين .. الآن علينا أن نواصل العدو في جولة ركض جديدة وهي سهلة قياساً إلى الجولات التي لعبتها وتجاوزتها بل هي لا تعد شيئاً حيال ما لعب من جولات فيما كانت المصارعة التي تدور أوارها الآن بين الأمواج والحيتان والدلافين أشبه بمصارعة الزومو Sumo اليابانية وهي تقضي كما هو معروف بأن يقذف أحد المصارعين خصمه خارج الحلبة ..!
المدن كالنساء إذن أريد القول فأي المدن هي بغداد ...؟
المدن لها روائحها الخاصة أقصد المدن المدن لها طعمها ونكهتها .. وبغداد مدينة لن تجد مثلها على وجه الأرض وقد يدمن المرء على مدينة فلا يعود يطيق بعاداً عنها .. هناك مدن تكتشف كل أسرارها في ساعات معدودة مدن تفتح ذراعيها وتقول لك تعال ... ومدن تفتح ذراعيها شريطة أن تفتح لها محفظة نقودك ولكن هناك مدن تمتنع عليك، فلا تمنح نفسها لك إلا بعد أن تثبت عشقك لها مدن سرية تفاجأ بأن تجد حواري وأزقة تضج بالحياة الداخلية وللأمر أصوله وتقاليده المعلنة وغير المعلنة، والأخيرة أكثر وأهم .... بغداد لا تشبه أحد من المدن ترحب بك بوقار هي كريمة للضيوف عطوفة لكن على الضيف أن يكون ضيفاً فحسب أما إذا جاءها بغير ذلك ربما سينجح في اجتياز أسوارها ولكن لن يكون مرحب به سيرى البغضاء في عيون الناس .. وفي زناد أسلحتهم .. ثم سيغادرها هارباً .. لا أقول شيئاً من عندي .. هو مدون في كتب التاريخ . وأخيراً .. وبعد 23 يوماً حلت ساعة الوداع .. سيغادر .. ولكن بجواز سفر حقيقي كنت ما يزال تحت وطأة مشاعر متنافرة وعندما ركب السيارة كان أخي الدكتور لؤي وصديق العمر وأخي نجاح حياوي والأخ الدكتور محمد الخياط في وداعي ليلاً في ساحة حافظ القاضي الوجهة :عمان/ الأردن كنت ما أزال تحت وطأة مشاعر متنافرة كنت لا أزال تحت تأثير إطلاق السراح المفاجئ والسفر السريع إلى الخارج فوجد نفسه ذات ليلة قليلة النجوم في مفترق طرق في الصحراء ذات صخور سوداء متناثرة هنا وهناك .. وحين نظر إلى الخلف ... كان الظلام يلف كل شيء وليست أمامه سوى نقطة مضيئة تلوح له من بعد كان لا يزال تحت تأثير إطلاق السراح المفاجيء والسفر السريع إلى الخارج الأشياء تجري بسرعة وها نحن في السيارة في الطريق... مررنا بالقرب من سجن أبي غريب لكن.. كان الظلام يلفه والقمر لا يبزغ فوق أبو غريب.. حزين وفي حالة إضراب عن البزوغ... القمر في مخيلتنا هو رمز الحب والعاطفة والشوق القمر جميل... ولكنه حزين في أبو غريب . كنت قد أبلغت السائ بعد أن اقتربنا من الحدود الأردنية وكانت الساعة بلغت نحو الواحدة فجراً... كنت قد طلبت منه أن يخبرني عند عبورنا خط الحدود العراقية وبعد دقائق شعرت أن السائق قد نسي ما طلبته منه وعندما سألته ذلك استدرك : لقد عبرنا للتو الأراضي العراقية ليش عمي؟.... ليش؟..ليش ناسي شيء ؟... كيف لي أن أقول له ليش؟ استدرت إلى الخلف ملتاعاً ولكن الليل كان يلف كل شيء.... فاستودعت الله بلادي الحبيبة بلهجتنا البغدادية : وديعة الله يا عراق يحفظك الله يا عراق... وديعة الله يا بلادي الحبيبة ... يا بلادي الحبيبة .. حملته أقدامه إلى بلاد بعيدة يبحث عن الطرق المؤدية إلى بلاد الرافدين إلى بلاد الراين أمضى شهوراً في رحلة استعادة الأشياء والنفس ولكنه نجح ...
ـ أنت من بلاد الرافدين ...
ـ نعم .. أنا من بلاد الرافدين
ـ ما الذي أتى بك هنا ..
ـ وجدت مقعداً شاغراً في الطائرة ... قلت لنفسي لنسافر ..
ـ هل أنت غريب ..؟ أيها الرجل .. هل أنت غريب ..؟
ـ أوه .. نعم .. في الحقيقة .. نعم .. أنا أريد تذكرة طائرة إلى برلين ..
ـ إلى برلين .. تذكرة طائرة .. ذهاباً وإياباً ..؟
ـ كلا .. كلا .. ذهاباً فقط رجاء ..!
ــ ذهاباً فقط .. !
ـ نعم رجاء ..
ضحك ضابط الجوازات وختم على جوازه العراقي .. " شوهد في الدخول "هتفت المذيعة الداخلية في المطار : طائرة الخطوط الجوية الألمانية لوفت هانزا تعلن عن قيام رحلتها رقم 7126 إلى برلين/ تيغل كان يسير بين الركاب معتقداً أن جميع الناس يتطلعون إلى خلقته .. ويكتشفون أنه خارج من مصهر حيث أعيدت صياغته .. وها هو يعود إلى الحياة بعد عشرين عاماً .. يريد أن يصرخ ويقول أن أحداً لم ينجح أن يصهره ..! ولكن هذا سيبدو شيئاً مجنوناً ... ترى هل كان يبدو عليه أنه خرج حديثاً من المصهر ..؟ هو حقاً كان يحاول أن يمنح انطباعاً يبعد الشبهات عنه .. من أنه حديث العهد بالتعامل مع الأشياء والنظم الحديثة فقد انتبه أنه في الفترة التي استغرقها الحلم / الكابوس أن استخدام التقنيات قد أصبح أمراً رائجاً جداً في المطارات وفي البنوك وفي استخدامات كثيرة حتى شراء التذاكر في محطات الحافلات .. وكان يخجل أن يطلب من الناس أن يقطعوا له تذكرة في القطار مثلاً أو في محطة الحافلات .. كان يرتدي ملابس أنيقة ويضع عطور ممتازة ويتحدث بضعة لغات وليس فيه ما يثير الدهشة .. ترى هل اكتشفوا خروجه الحديث من المصهر أعتقد أن هناك بعض المعدات الحديثة لها رائحة خاصة كالسيارات تعبر عن حداثتها، أو الأجهزة الكهربائية . أما هو فقد كان ينظر ويدقق فيما إذا كان هناك رجال آليون بين الركاب ..! لقد أضحى اكتشافه للرجال الآليين متعته الخاصة وهي أول ما تسترعي انتباهه .. ولكنه اعتقد أن هذا شعور مؤقت سيزول بمرور الزمن . في طريق الجو بالطائرة كانت الشاشة في دماغي تعرض عشرات الصور دفعة واحدة تتداخل تتشابك تتصارع تتصالح تتبعك تضحك تبكي ما أكاد أتبين الوجوه والأشكال حتى تشتبك مع صور كثيرة.. فقد تخيلت هذه الدقائق ملايين المرات لكن الواقع له نكهة أخرى له إيقاع آخر له إيقاع آخر له صوره الخاصة ولن يستطيع إنسان أن يعرف ما يخبئه القدر. كانت أنباء الفيضانات التي تجتاح بلاد الرافدين تملأ الصحف كعناوين رئيسية ضغط الأمواج على السد العظيم قد تعاظمت وسينهار على الأرجح وتغرق بلاد الرافدين السعيدة في لجة الظلام والفوضى كما حدث عندما فاض الفرات فأغرق بابل العظيمة ..السفينة العظيمة على وشك الغرق .. سيأتي الهمج من كل فج عميق البعض باسم الحضارة وبعض باسم الديمقراطية ولكنها نوستالجيا حتى العظام ...نوستالجيا هستيرية انتابت العظام فتحولوا إلى صغار حنين دموي لعصر الاستعمار ... وأسافل الناس طمعاً بالمال ...آه يا بلادي الحبيبة ... فقدت القلوع والشراع والمرساة ... تحملك موجة وتحطك موجة .. ليحميك الله ... ليحميك الله يا بلادي الحبيبة .... سيأتي يوماً ينتهي كل هذا وما كان، سيكون بوسع الناس بعد أن يرتوا من الدماء أن يفكروا لماذا كان وما صار ..؟ .. ذات نهار استدعوا كاتباً كتب، النداء الأخير قبل غرق السفينة ..فحبسوه .... لا يبكين أحد على بلاد الرافدين .. فقد جربت صنوف المحن وصنوف من الأوغاد مروا من هنا وانتهوا إلى القير وبئس المصير .. أما هي .. يا عيني عليها .. يا لهفة فؤادي عليها .. فشامخة ... شامخة ... شامخة .. تعانق الشمس وتناجي القمر .... نور في مآقينا سرى ....
يا بلادي الحبيبة .. سلام عليك بلادي الحبيبة .. سلام عليك
الطائرة متجهة إلى ألمانيا...
في طريق الجو بالطائرة كانت الشاشة في دماغه تعرض عشرات الصور دفعة واحدة تتداخل تتشابك تتصارع تتصالح تتعاتب تضحك تبكي ما يكاد يتبين الوجوه والأشكال حتى تشتبك مع صور كثيرة.. فقد تخيل هذه الدقائق ملايين المرات لكن الواقع له نكهة أخرى له إيقاع آخر له صوره الخاصة ولن يستطيع إنسان أن يعرف ما يخبئه القدر.
الطائرة متجهة إلى ألمانيا...
الآف الليالي في السجن 5690 ليلة نستقبل النهار الجديد.. النهارات كلها كانت تأتي عبر القضبان وها هي أشعة الشمس الآن تغمر الطائرة مشاهد كثيرة تمر بسرعة تقترب مني صور وتبتعد أخرى ثم يقفز الفكر إلى مسألة أخرى لا أستطيع الاستقرار على لقطة... وأبرر لنفسي هذا التشوش بكم العذاب الهائل... ولكن الذكرى تشدك وأحياناً تفرض عليك شخصيات ووجوهاً معينة بحضورها القبيح أو الجميل المحزن أو المفرح أستغرب حضور بعضها أنا لم أستدعها هي تطفلت واقتحمت شاشة الرؤية الأمر يدور كالأحلام... أي نعم كالأحلام أنت لا تتدخل في حضورها أو اختفائها. هي تفرض نفسها قوة ملامحها صوراً لا تختفي من الذاكرة أشخاص لن يغيبوا عن الذاكرة مطلقاً .. أحداث ومواقف لن تؤثر على تأثيرها السنين أقوى من الموت أقوى من الذاكرة ..
الطائرة متجهة إلى ألمانيا...
ينظر من نافذة الطائرة إلى السحاب الأبيض والسماء الزرقاء ومع أنه قرأ ودرس فرويد بدقة إلا أنه في دهشة متواصلة تذكر واستحضر واستدعى وجوه وصور رفاق وأصدقاء وأخوان وكثير منهم من غيبه الثرى شهيداً في هذه المسيرة الطويلة وأخوة من جميع الاتجاهات خسرتهم بلاد تاهاري قبل أن يخسرهم ذويهم وأحزابهم.
الطائرة متجهة إلى ألمانيا ..
كان يتذكر الأشياء الرائعة .... يتذكر رفاقه وأصدقاءه الذين قتلوا في صدامات الشوارع، يتذكر مؤيد الملاح ومن اغتيل رافع الهامة ودود عبد الجبار وأحمد العزاوي الذي فجروه ليتخلصوا من صراحته وإخلاصه سليم عيسى الزئبق الذي مات في ظروف غامضة عبد الكريم نصرت اغتالوه لأنهم لا يقدروا على مواجهته يتذكر الذين قضوا بكبرياء على المشانق تذكر من لم يبلغ البوابة الخارجية للسجن وهوى دونه : عبد الحسين عبد الأمير محمد عبد الطائي(أبو يوسف) معن وهيب عزيز حميد الحسون ثجيل جديع الشحماني ريحان كريم سالم حسن خالد سكران ريحان بلط (أبو لؤي) طراد نصر الله وليد محمود سيرت شوكت أدهم محمد أيوب يتذكر الذين استشهدوا على التلال المطلة على فلسطين رضا البرغوثي حاكم الخزاعي سمير زينل حسين نايف تذكر المقاومين الإسبان يوليوس فوجيك غابرييل بيري غارسيا فيدريكو لوركا يتذكر الكتّاب الأحرار برتولد بريشت إيليا أهرنبرغ وألكسندر فاديف وأبطال دروب الحرية لسارتر.... هذه المشاعل ستبقى تنير لنا الطريق رموز لجيلنا ولشعبنا ... لكل ركاب السفينة العملاقة .. التي ستجد طريقها إلى الترميم بعد خروج الفئران سنعيد بهاءها ستنطلق تقطع البحار والمحيطات فهذا هو ديدنها وقدرها منذ الخليقة ... منها كانت الشعلة والدولاب والحرف المسماري والقانون الأول وستواصل ذلك .. فأما ما ينفع الناس فسيمكث في الأرض وأما الزبد فيذهب جفاء .
الطائرة متجهة إلى ألمانيا ..
حين كانت الطائرة تقترب من مطار تيغل Tegel / برلين كان يشاهد البحيرات التي تحيط ببرلين وهي ذات المناظر الأخيرة التي شاهدها في برلين لآخر مرة تذكـر أحـداث يـوم 1983 / 5 / 15 في ذلك اليوم غادر بيته ببرلين صباحاً الرحلة كانت لسبعة أيام فقط ولكن الوغد راقص الديسكو من الذين يتملقون السلطات من أنواع الطفيليات .. اتفق مع السلطات أن يبذل جهده بإعادته إلى بلاد الرافدين السعيدة .. فأساء له وللسلطة وأحرق نفسه ولا أحد يعلم ماذا كان الثمن..؟ ربما أن يبقى مستمتعاً باحترافه الانتهازية والتملق والتنافس مع أقران له على وظائف مسح الأحذية . لكني سعيد لأن كنت مخلصاً فيما آمنت وفيما عملت وفيما تحمّلت أردد قول الكاتب المسرحي النرويجي هنريك أبسن :
إرسال تعليق