الهتلرية الجديدة والإستهتار بالأمن العالمي

مشاهدات



حسين عبد القادر المؤيد

 

إذا لم تكن العلاقات الدولية خاضعة لقواعد موضوعية  وإذا لم يكن السلوك السياسي للدول منضبطا بقانون وإذا لم تتحدد السياسات بالاستحقاقات التي تفرضها حقائق ووقائع فإن الفوضى وشريعة الغاب ستقود المجتمع البشري كله الى الهاوية . كل دول العالم تلتزم جامعاتها ومعاهدها الأكاديمية بتدريس القانون الدولي والعلاقات الدولية والمنتظم السياسي الدولي . وكل دول العالم المنخرطة في الأمم المتحدة اكتسبت عضويتها في المنظمة الدولية على أساس إقرارها بميثاق الأمم المتحدة وفي ضوء ذلك صارت جزء من منظومة المجتمع الدولي التي هي الإطار لحركة الدول . إن أي خروج عن ميثاق الأمم المتحدة يُحدِث خللا في المنتظم السياسي الدولي يرتبط حجمه ومداه بوزن الدولة المارقة وموقعها  في المعادلات الدولية . ولكن القاعدة العامة تقتضي من المجتمع الدولي أيّا كان المنتهِك الوقوف ضد انتهاك ميثاق الأمم المتحدة والعمل وفق القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة حسب نوع الانتهاك وحجم تأثيره ومتطلبات معالجته لإعادة الدولة المارقة الى مدارات المنتظم السياسي الدولي وإيجاد أو تفعيل الروادع التي من شأنها الحيلولة دون وقوع الانتهاكات من أية دولة من دول العالم . من البديهي أن حقائق القوة وموازين القوى في حالة تغيّر ويفضي هذا التغيّر الى تغيّر الاستحقاقات ولكن يجب أن يظل سقف القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ثابتا لأنه بني على اعتبارات موضوعية وقيم مشتركة .

مخرجات واقعية
وعلى الرغم من أن النظام العالمي الحديث قد تشكل بمخرجات واقعية وإن لم يتشكل بنحو يجسد العدل الأمر الذي انعكس على نظام  عمل الأمم المتحدة نفسها إلا أن بنود ميثاق الأمم المتحدة وبنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يجب أن تبقى صمام أمان ومرجعية مؤثرة في ضبط حركة السياسة الدولية . لقد جاء انهيار الاتحاد السوفيتي بفعل عوامل واقعية وسنن التغيير في حركة المجتمعات وبانهياره تغيرت موازين القوى واستتبع ذلك تغير الاستحقاقات الأمرالذي يفرض نوعا من السلوك السياسي يتسق مع الواقع الجديد . إن الدول التي كانت جزء من الاتحاد السوفيتي طوعا أو كرها وذاقت شعوبها مرارة النظام الشمولي وعانت من منهجه السياسي والاقتصادي سارعت بإرادتها الحرة الى الاستقلال تجسيدا لحقها في تقرير مصيرها وحريتها  في اختيار النظام السياسي الذي يحكمها واختارت المنهج الديمقراطي وقيم المجتمع المدني الحديث التي تعيشها دول أوروبا الغربية . وبحكم كون الكثير من دول الاتحاد السوفيتي جزء من جغرافية أوروبا فقد تطلعت الى الانضمام للاتحاد الأوروبي ووافقت بإرادتها الحرة على شروط الانضمام والتغيير الذي يتطلبه هذا الانضمام في نمط الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية . وتحقق هذا الانضمام للعديد من هذه الدول بموافقة شعبية ديمقراطية . لقد كانت بريطانيا في يوم ما الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ولكن حين تغيرت الحقائق على الأرض وتبدلت موازين القوى استجابت للواقع وصارت تنحو في سياساتها منحى الالتزام  بما يفرضه الاستحقاق السياسي الجديد .  وهذا هو منطق طبيعة الأشياء الذي يتطلب أن تتحدد السياسات بالاستحقاقات التي تفرضها حقائق ووقائع . إن تحقيق دولة أو قوة كبرى لمكاسب سياسية واقتصادية خارج إطار حدودها  لم يعد في النظام الدولي القائم مجالا مفتوحا للأحلام والأطماع  بمنأى عن القواعد والقوانين والمعادلات الواقعية وإرادة الشعوب . و إذا خرجت دولة ما أو قوة كبرى عن ذلك لزم على المجتمع الدولي التعامل معها بوصفها دولة مارقة . حين خرجت الولايات المتحدة الأمريكية عن هذا الإطار وغزت العراق واحتلته كان على المجتمع الدولي والقوى الكبرى الممثلة في مجلس الأمن القيام بواجباتها قبل الغزو وبعده  لأن التقصير في ذلك سيؤدي الى إرباك المنتظم السياسي الدولي وإحداث خلل فيه وهذا ما حدث بالضبط .

 

وحين تجاوز النظام الإيراني القانون الدولي وقواعد العلاقات الدولية وإرادة الشعوب وتحرك لبسط هيمنته ونفوذه تارة تحت عنوان تصدير الثورة وأخرى تحت عنوان الحفاظ على الأمن القومي الإيراني  كان على المجتمع الدولي التحرك بحزم لوضع حد لذلك لأن التقصير في القيام بهذه المهمة سيحدث خللا في المنتظم السياسي الدولي وأطره . وهذا ما حدث بالضبط . واليوم يواجه العالم خطر هتلرية جديدة يمثلها الرئيس الروسي بوتين الذي يرفض تحديد سياساته في حدود الاستحقاقات التي فرضها تغير الحقائق والوقائع  يريد انطلاقا من عُقَد وأحلام وأطماع  تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية كبرى خارج القوانين والقواعد الدولية ورغما على إرادة الشعوب بذرائع واهية . لو كان الشعب الأوكراني راضيا بالمنهج السياسي الروسي  لما طالب بالاستقلال بعد انهيار الاتحاد السوفيتي  لوافق أن يكون جزء من روسيا الاتحادية . ولكن الشعب الأوكراني طالب بالاستقلال وناله بإرادته الحرة  ورفض الهيمنة الروسية  بالانقلاب على السلطة التي خضعت للهيمنة الروسية وتمسك بالخيار الديمقراطي وقيم السياسة الأوروبية الغربية . أوكرانيا دولة عضو في الأمم المتحدة فيها سلطة تولّت الحكم عبر الديمقراطية ومن حقها بوصفها دولة مستقلة ذات سيادة أن تحدد خياراتها السياسية وتنتمي الى الفضاء السياسي الذي يتسق والمنهج السياسي الذي اختارته . بينما بوتين يريد أن يفرض هيمنته على أوكرانيا ويصادر إرادة الشعب الأوكراني . كل المبررات التي يتشدق بها بوتين هي مبررات واهية فالأمن القومي الروسي يجب أن يكون تحت سقف القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة . إن التطور العسكري أوجب إعادة تعريف محددات الأمن القومي ، فمن السخف تبرير هيمنة روسيا علىأوكرانيا بذريعة أن صواريخ الناتو إذا نصبت في أوكرانيا فيمكن أن تصل لموسكو في عشر دقائق  في الوقت الذي لا يستغرق وصول صواريخ الناتو في دول أوروبية عضو في الناتو الى موسكو أكثر من اثنتي عشر دقيقة  أو ربع الساعة أو ربما أقل من عشر دقائق .

 

اقلية موالية
ومن السخف أيضا تبرير غزو أوكرانيا بذريعة الدفاع عن أقلية موالية لروسيا تريد الانفصال عن أوكرانيا وكأنه لا توجد أمم متحدة وميثاق للأمم المتحدة  وطرق ووسائل سياسية لمعالجة الموضوع وحل النزاعات لم  يتم استنفاذها . إن بوتين يصف الشعور الوطني الأوكراني الرافض للهيمنة الروسية بالنازية تماما كما يصف الإعلام السياسي الإيراني العراقيين الرافضين للتدخل الإيراني فيا لعراق بالبعثيين لطمس الحالة الوطنية العراقية التي تتفاعل على نطاق واسع لدى المكوّن الشيعي في العراق .  هكذا أيضا يحاول النظام الإيراني تبرير تدخلاته في العراق بذريعة الحفاظ على الأمن القومي الإيراني مع أن الأمن القومي للدول ليس أمرا خاضعا لاجتهاد كل دولة ورغباتها  بل وحتى مخاوفها وإنما هو خاضع لاعتبارات موضوعية وقوانين دولية وقواعد وأصول واقعية وتنظمه حسابات دقيقة لا يجب أن تخرج عن تلكم الاعتبارات والقوانين والأصول . إن غزو أمريكا للعراق مثلا  لا يعطي مبررا لبوتين أن يحذو حذو أمريكا التي انتقد بحق غزوها للعراق وتجاهُلَها للأمم المتحدة والمواثيق الدولية  وإلا آلت أوضاع العالم الى الفوضى و تحكمت شريعة الغاب . إن روسيا تتحمل قسطا من مسؤولية التغول الأمريكي إذ تماهت معه أحيانا وسكتت عنه أحيانا أخرى بينما كان اللازم أن تلعب دورا مؤثرا في الحيلولة دونه عبر ترسيخ العقد السياسي الدولي المتمثل في ميثاق الأمم المتحدة . لقد أوجد بوتين المسكون بعقلية الأنظمة الشمولية  بتصريحاته وشروطه المستهترة بالقانون الدولي وتهديداته المتكررة بالقوة النووية واستهتاره بإرادة الشعوب و قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان انطباعا بأنه يشكل خطرا على الأمن العالمي وتحدي المكاسب الحضارة الحديثة ومستقبلها فلم يعد الأمر مقتصرا على أوكرانيا ولايمكن اختزال النزاع والتحليل والتعاطي بما حدث من عدوان على أوكرانيا فالأمر أكبر من ذلك وأخطر ليس ثمة شك في أن بوتين هو الخاسر على كل الفروض فقد انهارت سمعته عالميا جرّاء تهديداته النووية واستهتاره بالأمن العالمي وجرّاء ماسببه غزوه لأوكرانيا من أزمات للعالم وتوحدت أوروبا أكثر من ذي قبل وترسخ التحالف الأمريكي الأوروبي بنحو فاق الطموح الأمريكي وأصبحت دول أوروبا الشرقية أشد نقمة على روسيا وأعمق إدراكا لخطرها وأقوى انحيازا للغرب وفقد الكثير من رصيده لدى الشعب الروسي المتطلع للرفاهية والحرية الذي يرى في بوتين غرورا غير مبرَّر وجنون عظمة قد يتسبب في إبادته بحرب نووية  علاوة على أنه دقّ بسلوكه العدواني بين أوكرانيا وروسيا إسفينا لن يلتئم . بعد عام على غزو أوكرانيا  لم تحرز فيه روسيا أي نصر سياسي أو عسكري حاسم هل سيثوب بوتين الى العقلانية والواقعية والحلول السلمية  بدلا من الإمعان في القتل والتدمير وتعريض شعوب العالم التي لا ذنب لها في ما جرى لمزيد من الأزمات والأخطار أو يبقى مصرّا على أن يكون نموذجا لهتلرية جديدة ؟

 

 

تعليقات

أحدث أقدم