بين الخليج العربي والحليب الفارسي حدود تمتد إلى عشرات القرون

مشاهدات




د. محمود خالد المسافر


أنا أقر اولا بأن الخلافات والاختلافات هي من صفات المخلوقات العاقلة ، وان الاتفاق التام في الأمور هي اما ان تكون حالة مثالية أو أنها حالة نادرة . لذلك فإن الشعوب التي تتفق في غالبية جالبة للنظر أما أن تكون مثالية وهذا من الصعب توفره في كل الأزمان، أو أن تكون الظروف والتحديات المحيطة بذلك الشعب قد دفعته إلى الاتفاق التام أو شبه التام . ولكن بالتأكيد أن هذا الاتفاق سيؤول إلى خلافات بعد أن تختفي تلك الظروف أو بعضها . وعادة ما تبنى الاختلافات أو الخلافات على أسس دائمية أو وقتية لذلك فإن التاريخ مليء بالخلافات الدينية أو المذهبية أو الاجتماعية الطبقية، أو السياسية، أو الاقتصادية، أو الإدارية  أو الأخلاقية وغيرها الكثير التي تظهر مع ظهور المتغيرات الجديدة التي تستفز العقل الإنساني فتصدر عنه ردود أفعال مختلفة وباتجاهات مختلفة أيضا . ولكن دائما ما كانت تحكمها ما تسمى "المعايير الحاكمة" وهذه المعايير تتغير من وقت لآخر بحسب الظروف الخارجية والداخلية المؤثرة، وبحسب المبادئ والمنظومة القيمية السائدة، واهم ما يمكن أن يُقال في هذه المعايير الحاكمة أنها تمثل حالة الشعب النفسية والفكرية في وقت بعينه، ولذلك قيل إن أي قراءة موضوعية لأحداث تاريخية تُلزم الباحث أو المؤرخ أن يضع نفسه في الظروف ذاتها التي كانت سائدة في وقت الأحداث التاريخية موضوع الدراسة ليتمكن من إعطاء تفسير موضوعي للأحداث خالٍ من العاطفة المفرطة والاسقاط الزمني، والاحكام المسبقة وغيرها من عيوب النظرة الغارقة في الذاتية. 

 

وفي كل ذلك تبقى الاختلافات أو الخلافات أمرا مقبولا وواردا. ولكن وعبر الزمن الطويل تتكوّن أفكار ومبادئ وقيم جديدة تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل وتمثل وعاءً يلتقي فيه افراد المجتمع أو الشعب الواحد، حتى تتحول من قيمة داخلية إلى خاصية ظاهرة وغالبة على المجتمع، وتتحول تدريجيا هذه القيم والمبادئ لتصبح كائنا حيا محركا للمجتمع، وهو ما نطلق عليه "ضمير الشعب، أو ضمير الأمة"، ولا اختلاف عليه لأنه تغلغل إلى عقول وقلوب أبناء الشعب أو الأمة إلى مستوى عميق إلى الدرجة التي لا يمكن التفريق بينه وبين حامله. ثم تأتي القوانين والأنظمة واللوائح التي يضعها الشعب لتعبر عن ضميره ، وهي تلك القيم المشتركة التي توارثها المجتمع واتفق عليها. فإذا تجرأ اي فرد من افراد المجتمع أو الشعب التمرد على تلك القيم والمبادئ تصدت له لك القوانين والأنظمة واللوائح لتوقفه وتردعه عن أي فعل يعكر صفو "ضمير الشعب أو الأمة". وما اريد ان اقوله هنا أنه ليس نادرا أو مستغربا أن يختلف العراقيون اليوم على شكل النظام الحاكم الذي يحتاجه العراق اليوم أو أن يختلف العراقيون في رؤيتهم لواقع الحزبية والتحزب في العراق، أو ان يختلف العراقيون في تقييمهم لكل انواع الأنظمة التي حكمت العراق منذ تأسيس الدولة الحديثة إلى اليوم . ولا غرابة ان تجد في بيت واحد اخاً يفضل النظام الملكي، واخر يفضل النظام الجمهوري . أو أن تجد البعثي والشيوعي والاسلامي في بيت واحد ايضا. ومن الطبيعي أيضا ان يختلف العراقيون في نظرتهم لجيرانهم بمختلف اديانهم ومذاهبهم وقومياتهم ولغاتهم وانواع ملابسهم . إذ اننا احيانا نرى أن الجيران على الحدود بين بلدين لا يحب بعضهم بعضا، واحيانا تراهم مترابطين ومتوافقين إلى درجة مثيرة للانتباه، واحيانا ترى أن الثقافات المشتركة بين الجيران واضحة، واحيانا أخرى ترى الاختلافات في الثقافة واضحة أيضا . المهم أن كل هذه الاحتمالات وأكثر منها موجودة بين الجيران على الحدود المشتركة بين العراقيين والسوريين والأردنيين والسعوديين والكويتين والاحوازيين والايرانيين والأتراك. 

 

ولا بد من التأكيد على أن تاريخ العلاقة بين العراقيين وبين اولئك الذين ذكرتهم تحكمها عوامل التاريخ القديم والحديث. لكن مع كل ما سبق لا يختلف العراقيون في انتمائهم الاصيل للعراق، وحتى الذي لا ينتمي عاطفيا إلى العراق ولكنه يحترم قوانينه وانظمته ويراعي مشاعر المجموع في انتمائهم لهذا البلد، فلا بأس، فلن يصادر مواطنته أحد . لكن من غير المقبول أن يصرح بعض ممن يسمون أنفسهم "عراقيين" بأن الخليج العربي ليس عربيا وان أصله فارسي فينبغي أن تتصدى له القوانين والأنظمة لأنه أساء لضمير الشعب وما ترسخ لديه عبر عشرات القرون . وإذا ظن أنه في زمن الفوضى ليس هناك رقيب ولا حسيب فليعلم أن زمن الفوضى لا بد له أن ينتهي وسيتعقبه القانون ورجاله ، ليحاسبوه . ويقابل ذلك العمل الفردي فاقد الأهلية والموضوعية، ما قامت به الجماهير العراقية بما يزيد عن عشرات الآلاف منهم بترديد شعار الحرية "انعل ابو إيران لابو امريكا"، واعلم أن هذا هو ضمير الشعب الذي اخرس وأخفى كل مؤيد للوجود الايراني والأمريكي في العراق . أن إصرار الشباب التشريني البطل على تسمية الخليج العربي ورفض الاحتلال الايراني والأمريكي إنما هو تعبير عن ضمير الشعب الذي ترسخ في أعماقه عبر عشرات القرون من تاريخه الموغل بالقدم، ولا يعارض ذلك إلا من أرضعته امه حليبا فارسيا .

تعليقات

أحدث أقدم