أسر بطعم الموت

مشاهدات



بشار حربي


6 كانون الثاني 1992 ، يومٌ لن أنساه ، كنتُ حينها قد أمضيت أربع سنوات أسيراً في إيران ، وكان طعم الذل قد حلَّ رويداً رويدا ، بديلاً عن طعم البرحي والسمك المسگوف ، وطيّبات الوطن الحبيب . كنتُ حينها معزولاً مع 1330 أسيرا عراقياً من مختلف الرتب العسكرية في معسكر ( رينة ) الواقع عند الحدود الشمالية لإيران ، بالقرب من بحر قزوين ، وهذا المعسكر عبارة عن قاعدة تجسس أقامها شاه ايران قديماً ضد الاتحاد السوڤيتي ، ويقع على قمة جبل ( دماڤند ) على ارتفاع 18406 قدم أو ما يعادل 5610 متر ، فوق مستوى سطح البحر .

 

إعتاد الإيرانيون معاقبتنا بشكل جماعي في مثل هذه المناسبة من كل عام ، حيث وضعوا في العام الفائت مادة الكلور في ماء الشرب والطبخ ، فأُصيبَ الجميع بإسهال حاد ، اضطر معه القائمين على المعسكر إلى جلب أكثر من 40 صفيحة ( علبة أو تنكة ) لاستخدامها كمراحيض ، تضاف إلى ثلاثة مراحيض بدون أبواب ، حيث يمتد بصرك إلى مهزلة بشرية قوامها 40  أسيراً يجلسون على تلك التنكات في كل لحظة على مدار يوم كامل ، الأمر الذي أدى إلى استشهاد عدد من الأسرى . وفي هذا العام 1992 ابتدعوا معنا طريقة جديدة  في العقوبة الجماعية ، كي لا يُتاح لنا الاحتفال بطريقتنا البسيطة الخاصة بعيد جيشنا الأغر ، لأنهم على ثقة من أننا سنحتفل بالمنا  قاموا منذ الصباح الباكر ( السادسة وعشرين دقيقة ) بإخراجنا إلى ساحة المعسكر لإجراء التعداد اليومي ، وأبقونا واقفين بحالة إستعداد ( على شكل صفوف ، يضم كل صف منها 20 أسيراً ) لمدة تزيد على ثمان ساعات ، في وقتٍ كانت السماء تنثر علينا ثلجاً حتى قارب سمكه مستوى الركبة . راهنَ قادة المعسكر على تململنا وقشعريرة البرد التي تصيبنا ، حيث لا يستر أجسادنا سوى بدلة السجن الخفيفة الزرقاء الممزقة ، وليس في أرجلنا غير نعلين ممزقين من النايلون ، وهم ينظرون لنا نظرة شرسة فيها الكثير من الشماتة والاستهزاء والتعجرف ، وبنادقهم مصوّبة إلينا ، ونحن في وسط الفناء الداخلي الترابي للمعسكر ، المحاط بأربعة جدران لا تسمح لنا سوى النظر للسماء التي هي منفذنا للدعاء بالفرج ، ولقمّة الجبل التي لا تبعد سوى 100 متر عن المعسكر . سمحوا لنا بعد ساعة من الوقوف بتحريك أرجلنا وهي في موضعها ، حيث أضحت الثلوج تحيط بها وترتفع باتجاه ركبنا ، وكلما مضت ساعة ، ضعفت مقاومة بعض الأسرى ، فيسقطون مغشياً عليهم ، كأنهم أوراق ذابلة في شجرة قديمة .

 

وحين بلغ النهار منتصفه تقريباً ، وكان السكونُ والصمتُ آلهة المكان ، تذكرتُ بلدي الحبيب - العراق ، وكيف يحتفل العراقيون بيوم السادس من كانون ، فخرجت مني همهمةٌ بالنشيد الوطني للعراق :
( وطنٌ مدَّ على الأفقِ جناحا
وارتدى مجدَ الحضاراتِ وشاحا
بوركت أرضُ الفراتين وطن
عبقريُّ المجدِ عزماً وسماحا )
فشاركني الأسير الذي يقفُ بجانبي ( وهو أحد الطيارين ) دندنةَ النشيد ، ثم شاركَ ثالثٌ ورابع ، حتى صدحَ الجميع ، في وقتٍ غيّبت كثافةُ الثلجِ الساقطِ وجهَ السماء ، وصعد القرارُ بداخلنا ، أن نغيظَ أعداءنا الذين ارتعبوا من هيبةِ النشيد وصوت الأسرى المفعمِ بالقوة والتحدي . وما هي إلا دقائقَ معدوداتٍ حتى حضر آمرُ المعسكر ، الرجل الشديد القاسي الغليظ القلب ، ذو القسمات الإجرامية ، واعتلى ظهر أحد الجدران التي تحدد فضاءنا ، ونظرَ إلينا شزَراً ، متوعداً بأقسى العقوبات ِ ، مزمجراً ، وأمامَ استمرارنا بنطقِ بالنشيد ، وبتواترٍ ينمُّ عن التحدي ، لانت لهجته ، والتفتَ إلى جنوده ، وخاطبهم ، خذوا العبرة في حبِّ الوطنِ من هؤلاء الأسرى ، الذين يفتدون وطنهم ، وهم بعيدون عنه بآلاف الكيلومترات . ليتنا نمتلك مثلهم ، وو ...لاحت على وجوهنا أماراتُ الفخر ، وبانت على مُحيّا كل منا ابتسامة شماتة .
 

تعليقات

أحدث أقدم