د. ضرغام الدباغ
في العام الدراسي 1961/1962، كنا طلابا في الصف المستجد الدورة 18 / كلية الشرطة ببغداد ، وكنا نتلقى العلوم العسكرية والمسلكية والقانونية على أيدي أفضل الأساتذة (دكاترة) (ويتولون تدريسنا المواد القانونية والانسانية) والضباط الركن (يدرسون التعبئة والتخطيط، ونظريات الرمي) ، أو من ضباط الشرطة الخبراء الفنيين ، ومعظمهم كان قد أوفد لدورات خارج العراق ، بصفة خاصة للولايات المتحدة وبريطانيا ، وعادوا للتدريس في الكلية . وكانوا ينقلون لنا مشاهداتهم وانطباعاتهم عن الدورات التي اتبعوها هناك، وبعضهم كان يتحدث اللغة الإنكليزية بطلاقة . ومن بين ما أسهبوا في شرحه كان جهاز كاشف الكذب (بالانكليزية / Polygraph)، الذي يعود أصل اكتشافه إلى عام 1921 في الولايات المتحدة، ولم يكن حتى ذلك الوقت (وأعتقد ما يزال) لم ينتشر في الكثير من البلدان، والأدق أنه رغم التطويرات التكنولوجية على الجهاز، إلا أنه لم ينجح (حتى الوقت الحاضر) في أن يكون مؤشرا قاطعاً في الدلالة الجرمية ، وإذا كانت المحاكم تتردد ، بل لا تعتبر الصورة والتسجيل الصوتي حتى قبل عشرات السنين ، دليلا جرميا يعتد به ، بأعتبار الامكانية التقنية المتوفرة في تزوير المبرز (صورة أو تسجيل صوتي) ، فجهاز كاشف الكذب قد أثبت في كثير من الحالات المهمة ، أنه أقل من أن يعتبر مؤشرا ومؤثرا على قناعة المحقيين او القضاة . جهاز كشف الكذب أو البوليغراف polygraph ، هو جهاز لقياس السجلات والقياسات الفسيولوجية المختلفة مثل ضغط الدم ، النبض ، التنفس، والعلامات التي تظهر على البشرة ، والجلد عند توجيه الأسئلة للشخص المستجوب . ويعتقد أنه أثناء الإجابة عن تلك الأسئلة سوف تتولد استجابات فسيولوجية يمكن عن طريقها تحديد مدى صدق الشخص .
ـــ ومن الانتقادات التي توجه لجهاز كاشف الكذب ارتفاع تكاليف تشغيله ، إذ يبلغ متوسط تكلفة إجراء الاختبار في الولايات المتحدة الأمريكية (في بداية الألفية الثالثة) أكثر من 700 دولار أمريكي ، ويُعد جزءًا من صناعة تُقدّر قيمتها بملياري دولار أمريكي .
ــ وبصفة عامة جرى تقييم جهاز كاشف الكذب بوصفه جهاز لا يمكن الاعتماد على نتائج كدليل مؤكد ، واعتبارها وسائل غير كافية وغير صالحة لتقييم الصدق . لم يجد المجلس القومي للأبحاث في الولايات المتحدة أية دلائل على فعالية جهاز كشف الكذب ، على الرغم من الزعم بصحة 90% من نتائج فحوصاته . تقول جمعية علم النفس الأمريكية: " يتفق معظم علماء النفس على عدم وجود أي دليل يُذكر على إمكانية كشف جهاز المخطط المتعدد للأكاذيب بدقة عالية ".
ــ لكن ، من الممكن للتفاعلات الفيزيولوجية التي " تميز " الكاذبين أن تظهر أيضًا عند الأشخاص الأبرياء الذين يخشون الكشف الزائف، أو عند الأبرياء الذين يبالغون بإظهار عواطفهم عند الإجابة على الأسئلة المتعلقة بارتباطهم بالجريمة . لذلك ، قد يكون السبب وراء ظهور الاستجابة على شكل رد فعل فيزيولوجي مختلفا . أوضح الفحص الإضافي لاختبار الكذب المحتمل إمكانية كون هذا الاختبار متحيزا ضد الأشخاص الأبرياء . سيفشل أولئك الذين لا يستطيعون التفكير بكذبة متعلقة بالسؤال المطروح في الاختبار بشكل تلقائي .
ــ ويتضح أن كفاءة مشغلي الجهاز لها علاقة مهمة بالنتائج ، وطبيعة الأسئلة التي يوجهها ، وما إذا كان متحاملاً أو ودوداً مع المستوجب . في عام 1991، اعتبر ثلثا المجتمع العلمي الذين يملكون الخلفية اللازمة لإجراء الاختبارات على أجهزة كشف الكذب ، بأن الجهاز هو عبارة عن علم زائف . في عام 2002، أظهر تقييم أجراه المجلس الوطني للبحوث أنّه من الممكن " أن تحدّد اختبارات كشف الكذب المرتبطة بحادث معين، الصدق من الكذب بمعدلات أعلى بكثير من الصدفة، لكنها بنفس الوقت بعيدة جدًا عن الكمال ".
ــ وبصفة عامة تقر هيئات علمية عديدة ، أن جهاز كاشف الكذب يفتقر كثيراً إلى درجة الصدقية الحاسمة التي توفرها طبعات الأصابع مثلاً ، أو فحوصات الحمض النووي ، أو الفحص التقني لسلاح الجريمة " . ففي عام 2005 ، ذكرت الدائرة الحادية عشرة في محكمة الاستئناف بأن «جهاز كشف الكذب لم يحظ بقبول عام من المجتمع العلمي . وهذا يوفر قدراً كبيرا من الشكوك بنتائج جهاز كاشف الكذب.
ــ ويؤشر خبراء أن جهاز كشف الكذب يقيس الإثارة ، والتي يمكن أن تتأثر بالقلق، ويقيس اضطرابات القلق (كاضطراب ما بعد الصدمة)، إضافة إلى قياس مستويات الهلع والخوف والارتباك ونقص السكر في الدم والاختلال في الوظائف العقلية والاكتئاب والحالات التي تسببها بعض المواد (كالنيكوتين والمنشطات) ، وحالة انسحاب المواد (كالانسحاب الكحولي) ، والعواطف الأخرى، بينما لا يقيس جهاز كشف الكذب " الأكاذيب". كما من غير الممكن للجهاز أن يميز بين القلق الناجم عن الكذب والقلق الناجم عن أي سبب آخر.
مكتب الكونغرس الأمريكي لتقييم التكنولوجيا
نشر مكتب تقييم التكنولوجيا التابع للكونغرس الأمريكي عام 1983 مراجعة لتكنولوجيا جهاز كشف الكذب، تضمنت ما يلي :
" لا يوجد في الوقت الحاضر سوى بعض الأدلة العلمية التي تثبت مشروعية فحوصات جهاز كشف الكذب . حتى عندما تظهر الأدلة على أنها تشير إلى إمكانية جهاز كشف الكذب في فضح الكاذبين بشكل أفضل من المصادفة ، فإن معدلات الخطأ الكبيرة ممكنة جدًا، من الممكن للفاحص أن يدرس الاختلافات ويستخدم الإجراءات المضادة لإضفاء المزيد من المشروعية على اختبارات الجهاز "
الأكاديمية الوطنية للعلوم
في عام 2003، نشرت (NAS) ، الأكاديمية الوطنية للعلوم " تقريرًا بعنوان " جهاز كشف الكذب ". وجدت الأكاديمية بأن غالبية أبحاث جهاز كشف الكذب كانت «غير موثوقة وغير علمية ومتحيزة»،
ــ عند استخدام جهاز المخطط المتعدد كأداة فحص (في القضايا المتعلقة بالأمن القومي ، بواسطة الأجهزة المختصة ) ، ينخفض مستوى دقة الجهاز إلى المستوى الذي " يُعتبر غير كافٍ لتبرير استخدامه في الفحص الأمني الخاص بموظفي الوكالات الفيدرالية ". خلصت الأكاديمية الوطنية للعلوم إلى أنّه من الممكن أن يكون لجهاز كشف الكذب فائدةً محدودة، ولكن " لا أساس للتوقعات القائلة بأنه من الممكن أن تكون دقة جهاز كشف الكذب عالية للغاية". ومع ذلك، فإن الأجهزة الأمريكية خاصة، تميل بشدة لاستخدام الجهاز، واعتماد نتائجه الغير دقيقة .
عندما سئل ضابط وكالة المخابرات المركزية ، ألدريش أميس ، الذي أصبح فيما بعد جاسوسا تابعا لجهاز الاستخبارات السوفييتي (كي جي بي)، عن اختبار كشف الكذب الذي أجراه ، تحدث عن النصائح البسيطة التي وجهها له مسؤوله السوفييتي مثل : " احصل على مقدار جيد من النوم في الليل ، والراحة ، واسترخ خلال الاختبار . كُن ودودا مع القائم على الاختبار، وحاول أن تبني معه علاقة، وكن متعاونًا، وحافظ على هدوئك ". بالإضافة إلى ذلك، أوضح أميس، " لا يوجد سحر خاص لاجتياز الاختبار، جل ما عليك فعله، هو الثقة بنفسك، وبناء علاقة ودية مع المُمتحن، ابتسم واجعله يعتقد بأنك تستلطفه ".
إرسال تعليق