صباح الزهيري
عام 1981 كنت عائدا من لاغوس عاصمة نايجيريا القديمة الى مقر عملي في مابوتو عاصمة موزمبيق ...كان أقصر خط جوي ( كونكشن ) هو المار عبر باريس والبقاء يومين فيها.... أستطاع الزملاء في سفارتنا بصعوبة أن يحصلوا لي على بطاقة لحضور حفل فيروز في مسرح كازينو لبنان الكائن في شارع الشانزلزيه الشهير ....كانت غالبية الحضور من الأخوان في الجالية اللبنانية وعوائلهم ...حالما بدأت السيدة فيروز بالغناء دخل الحضور في جو من البكاء والعويل...كانت الحرب الأهلية اللبنانية لاتزال مشتعلة الأوار ...وكانت فيروز تشعل في قلوبهم الحنين وتستخرج من صدورهم الأنين ليتصاعد الى بكاء حزين لا مجال لكفكفة دموعه ...وأستمروا على هذا المنوال مع كل أغنية جديدة او قفل أغنية يستعيدونه معها بالنواح وكان لابد ان يسحبوا نشيج أرواحنا ايضا حيث تعاطفنا لا أراديا معهم ...وبكينا ..وكانت ليلة... كان العراق حينها يخوض حربا ولكنه كان موحدا قويا ولم يمر بمخيلتنا أننا سنبكيه بعد 22 عاما كما بكى اللبنانيون وطنهم .
يعجبني الغناء خصوصا مايطرب منه .... تلك صفة رافقتني منذ أيام الصبا , ومع تقدم العمر وتطور الفهم بدأت أحس ان روحي تتفاعل معه بفرح يصل لدرجة البكاء.... الأيطاليون لديهم مثل شائع يقول : الفرح لا عائلة له، وللحزن زوجة وأولاد . يعجبني المقام العراقي وغناء الريف وأبوذياته وزهيرياته كما أعشق الأندلسيات السورية وحفلات ام كلثوم وعبد الوهاب وفيروز ....وأحببت أيضا فرانك سيناترا ومطربي الغناء الريفي الأميركي وفي فترة كنت عاشقا لخوليو الأسباني ...كلهم احتفظ بأسطواناتهم وكاسيتاتهم وغالبا ما أدع الـگـرام يصدح بهم في أرجاء البيت عندما يضيمني الضيم فأهرب لهم . في الستينات سيطرت أغاني نجاة الصغيرة على مشاعرنا خصوصا ( أنا بستناك ) وساكن قصادي ولازلت احن لسماعها لتنقلني الى ذكريات ذلك الجزء الجميل من سفر العمر.. كنت اسمع اهلنا يقولون ان الفرح نصف الصحة . والحقيقة اني قرأت لتولستوي قوله : الحزن المطلق مستحيل ، مثلما هو الفرح المطلق .
وورد في تأريخ الطبري ان الغناء انتشر في بغداد زمن رخاء الدولة العباسية وكانت حفلات الغناء تقام في قصور الخليفة ووزراءه وأعوانه وكبار التجار والأغنياء , كما تقدمت صناعة الغناء آنئذ , ويصف آثار الطرب على الحضور بأنهم كانوا يهزون رؤوسهم متفاعلين مع المغني فترى عمائمهم تكاد تلامس سقف المنزل طربا لتهوي اهتزازا بعدها لتطأ الأرض . الموسيقى والغناء هي ملجأ الأرواح التي جرحتها السعادة.... اليوم وفي فترة ما بعد الغزو نتواعد كمجموعة من المتقاعدين او المقصيين الأصدقاء ورفاق الدرب والمعارف في بعقوبة ونختار جمعة في الشهر لنذهب سوية الى شارع المتنبي في بغداد لنحضر جلسات المقام العراقي التي تقام في قاعة الشناشيل لنقضي ساعتين في سماع القراء طه غريب وخالد السامرائي ليعيدونا الى ايام الشباب والبهاء والوطن الشامخ وليسحبوا من صدورنا زفرات الأسى على ما أصابنا ولننفث شهقات وحسرات لاهبة وصامته طاردين عنا أعين الشامتين متظاهرين بالطرب الذبيح , لا كالتي رأيت أخواننا اللبنانيين عام 1981 يستخرجوها مرفقة بالصراخ والدموع والعويل , فلم يكن للبنانيين شوامت .
إرسال تعليق