محمود الجاف
جدد الأتراك نضارة الحضارة الإسلامية بعد أن أبْلتها القرون وقعدت بها النُخب المُمسكة بزمام الدولة العباسية حين تخلَّت عن معاني الرجولة والقوة . ثم جائتها سِهام الحقد من المغول في الشرق إلى الصليبيين في الغرب ونخر عظامَها الفكرُ الباطني .
قال ابن خلدون ( حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة والترف ولبستْ أثواب البلاء والعجز ورُمِيت بسفاحي التتر الذين أزالوا كرسيّ الخلافة وطمسوا رونق البلاد وأدالوا بالكفر عن الإيمان بما أخذ أهلَها عند الاستغراق في التنعُّم والتشاغل في اللذَّات وتكاسُل الهمم والقعود عن المناصرة والإنسلاخ من جِلدة البأس وشعار الرجولية . فكان من لطف الله سبحانه أنْ تداركَ الإيمانَ بإحياء رمَقه وبعث لهم من هذه الطائفة التركية وقبائلها العزيزة المتوافرة أمراء حامية وأنصارا متوافية.. يدخلون في الدين بعزائم إيمانية وأخلاق بدوية لم يدنِّسها لُؤْم الطباع ولا عوائد الحضارة . فلا يزال جيلا يعقبُ جيل والإسلام يبتهج بما يحصل به والدولة ترِفُّ أغصانُها من نضرة الشباب ) ( تاريخ ابن خلدون ) لقد منحتهم الحملات الصليبية وغزوات المغول فرصة ذهبية لاكتساب شرعية القيادة والريادة في وقت كان فيه المسلمون في امس الحاجة إلى براعتهم العسكرية واستعدادهم للتضحية بعد ان فقد العرب روحهم المتوثبة وفتوتهم الأولى بعد أن جمع النبي صلى الله عليه وسلم شملهم وأحالهم من حياة الإنتحار الجماعي في اقتتال بين القبائل إلى حياة التوحيد والجهاد لبناء عالم أفضل لهم وللبشرية . والسبب هو إهمالهم لمصدر قوتهم وهو الرسالة الإسلامية . إن التُّرك خاضوا أشرف وأشرس المعارك التي خلدها التاريخ ونقشت حروفها من ذهب على صخرة الجهاد ومنها :
معركة ملاذكرد : المعركة التي دارت بين الإمبراطورية البيزنطية والسلاجقة الأتراك في 26 أغسطس 1071 بالقرب من ملاذكرد ( ملازغرد حاليا في محافظة موش . تركيا ) ولعبت الخسارة الحاسمة للجيش البيزنطي وأسر الإمبراطور رومانوس الرابع دورا مهما في ضعضعة الحكم وسمحت بالتتريك التدريجي للأناضول . كان الإمبراطور البيزنطي قد جهز جيشًا ضخمًا مُكوَّن من مائتي ألف مقاتل من الروم والروس والكرج والأرمن والخزر والفرنجة والبلغاريين وتحرك بهم من القسطنطينية عاصمة دولته إلى ملاذكرد حيث يعسكر الجيش السلجوقي . وحينها أدرك ألب أرسلان حرج موقفه لأنه أمام جيش بالغ الضخامة كثير العتاد في حين أن قواته لا تتجاوز عشرين ألفًا فبادر بالهجوم على مقدمة جيشهم ونجح في تحقيق نصر خاطف يحقق له التفاوض العادل مع امبراطور الروم لأنه كان يدرك صعوبة دخول المعركة ضدهم فقواته الصغيرة لا قبل لها بمواجهة غير مضمونة العواقب فأرسل إليهم مبعوثًا يعرض عليه الصلح والهدنة فأسائوا استقباله ورفضوا عرض السلطان وطالبو أن يبلغه بأن الصلح لن يتم إلا في مدينة الري عاصمة السلاجقة . فأيقن السلطان ألاَّ مفر من القتال بعد أن فشلت المهادنة في دفع شبح الحرب فعمد إلى جنوده يشعل في نفوسهم روح الجهاد وحب الاستشهاد وأوقد في قلوبهم جذوة الصبر والثبات ووقف فقيه السلطان وإمامه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري يقول للسلطان مقوِّيًا من عزمه : إنك تقاتل عن دينٍ وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان وأرجو أن يكون قد كتب هذا الفتح باسمك فالقِهم يوم الجمعة بعد الزوال وفي الساعة التي يكون الخطباء على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر والدعاء مقرون بالإجابة . وحين دانت ساعة اللقاء في (آخر ذي القعدة 463 هـ/ أغسطس 1071 م) صلّى بهم الإمام أبو نصر البخاري وبكى السلطان فبكى الناس لبكائه ودعا ودعوا معه ولبس البياض وتحنط وقال : إن قتلت فهذا كفني .
أحسن السلطان ألب أرسلان خطة المعركة وأوقد الحماسة والحمية حتى إذا بدأت أقدم جنوده كالأسود الضواري تفتك بما يقابلها وهاجموا أعداءهم في جرأة وشجاعة وأمعنوا فيهم قتلاً وتجريحًا وما هي إلا ساعة من نهار حتى تحقق النصر وانقشع غبارها عن جثث الروم تملأ الارض . أطلق السلطان سراح أسيره الإمبراطور البيزنطي بعد أن تعهد بدفع فدية كبيرة قدرها مليون ونصف دينار وإطلاق سراح كل أسير مسلم في أرض الروم وعقد معاهدة صلح مدتها خمسون عامًا يلتزمون خلالها بدفع الجزية السنوية ويعترف بسيطرة السلاجقة على المناطق التي فتحوها من بلادهم ويتعهدون بعدم الاعتداء على ممتلكاتهم . ثم أعاده إلى بلاده وخلع عليه خلعة جليلة وخصص له سرادقًا كبيرًا وأعطاه قدرًا كبيرًا من المال لينفق منه في سفره وأفرج عن عدد من ضباطه ليقوموا بخدمته وأمر عددًا من رجاله بصحبته حتى يصل إلى دياره سالمًا . ولكن لم تكد تصل أخبار الهزيمة إلى القسطنطينية حتى أزال رعاياه اسمه من السجلات وقالوا : إنه سقط من عداد الملوك وعُيِّن ميخائيل السابع إمبراطورًا فألقى القبض عليه فور وصوله وسمل عينيه . تولى ألب أرسلان حكم دولة السلاجقة سنة (455 هـ/ 1063 م) خلفًا لعمه طغرل بك الذي أسس الدولة ومدَّ سلطانها حتى غدت أكبر قوة في العالم الإسلامي . وقضى السنوات الأولى من حكمه في المحافظة على ممتلكات دولته وتوسيع رقعتها وتأمين حدودها من غارات الروم . أين شبابنا الذين يعشقون الحضارة الغربية ويرتدون الأعلام المُزينة بالصليب المُلطخة بدماء شُعوبنا من هؤلاء الأبطال … فمتى نعرفُ تاريخنا ونسير على درب أعلام أمتنا الذين فتح الله على أيديهم قُلوب العباد والبلاد !!
إرسال تعليق