رجل في الذاكرة

مشاهدات


 

موفق العاني 

 

اشتهر العرب دون غيرهم من سائر شعوب الأرض بالكرم وإقراء الضيف ، وفي عام 1972 من القرن الماضي ، كنت جالساً مع الاستاذ الكبير عباس البلداوي في حديقة بيته في بعقوبة الجديدة ، وكان يحدثني بعفوية وصدق مشاعر عن بداية الخمسينات ، وعلاقته برجل كريم وشيخ جليل وعن فيض سخائه ، وكنت أصيخ السمع له وأتأمل بإعجابه الشديد بهذا الرجل . بعدها سألته إن كان موجوداً ؟ فقال : انتقل الى رحمة الله . ولكن ولده لا يقل عنه كرماً ومروءة ، فقلت له لابد أن نزوره يا أبا غانم ، فقال: يوم الجمعة القادم سنزوره إن شاء الله . 

 

وفي الساعة الثامنة من صبيحة يوم الجمعة تحركنا باتجاه بغداد ثم بلد والسيد محمد ثم انعطفنا الى إحدى القرى على نهر دجلة هي قرية الحاتمية التي تقابل قرية الدوجمة من قضاء الخالص على الضفة الثانية ، واستقبلنا رجل في الخمسين من العمر قام بتعريفه الاستاذ عباس بأنه الشيخ محمد علي الحاتم شيخ أحد بطون تميم الساكنة في تلك القرية ، وبعد ترحاب متواصل والشاي والقهوة ، طلبنا منه أن يكون الغداء سمكاً مع لوبياء وخاصة أن الصيف موسم لها . فقال وهو يبتسم أما انتما فخطار خفيف جزاكم الله خيراً ، عندنا سمكتان مربوطتان في مضخة الماء على النهر ، واللوبياء متوفرة على الشاطئ ، ومشكورين وحياكم الله ) وبقي يتجاذب معنا الحديث بأجمل كلام وسريرة تجسد فرحه بقدومنا ، وعندما حان وقت الغداء جيء بسمكتين مشويتين ، واللوبياء ، ثم جيء بصينية كبيرة عليها خروف ، فعاتبته وقلت : يأبا يوسف خالفت الإتفاق ، فرد عليَّ قائلاً : انتم اهل بيت ولكن اذا داهمنا غريب سيقول هذا البخيل قدم غداءً لضيوفه لوبياء ، وكنت اراقب سلوكه وحديثه ، لأقارن بين حديث البلداوي عنه وعن والده وما أراه على الواقع ، إنه الشيخ محمد علي الحاتم الهذال أحد مشايخ قبيلة تميم رحمه الله ، ومرت الأيام والأعوام داومت على زيارته وهو يزورني ، وفي بداية التسعينات كنت  وأحد الأصدقاء في زيارة لمجلس عزاء لأحد أصدقاء صديقي في تلك النواحي  التي تبعد عن الحاتمية حوالي 60 كم ، وقد اصطحب صاحبي خروفين وعبوات دهن وكيسين من الرز والسكر ، وقبل غروب الشمس استأذن صاحبي ولكن صاحب العزاء لم  يطلب منا البقاء على العشاء للمجاملة ، وفي طريق العودة طلبت من صديقي أن نسلم على أحد أصدقائي في طريقنا فوافق وذهبت به الى الحاتمية ولما دخلنا بيت الشيخ محمد علي استقبلنا نجله يوسف ، سألته قبل جلوسنا عن والده ، فقال: موجود وسوف يأتيكم ، قلت له : نحن على عجل ونكتفي بفنجال قهوة والسلام على الوالد ، فجاءتنا القهوة وبعدها الشاي ، وأنا ألح على يوسف بالسؤال عن والده ، وهو يجيب سيأتي انه داخل البيت وسيأتي وبقينا حوالي ساعة قلت له نحن ذاهبون وسلم على الوالد ، وإذا بالشباب يحملون صينية وعليها الخروف ، فقلت : ماهذا يا يوسف وأين الوالد ، فقال : عمي الوالد في بغداد وإذا تركتم بدون عشاء سيغضب . وهنا ابتسمت وهمست في أذن صاحبي مازحاً : هذا صديقي وذاك صديقكم . وبعد يومين جاءني الشيخ محمد علي الى بعقوبة متأسفاً عن عدم لقائنا به ، ويلح على أن نعاود الزيارة . رحمك الله يا أبا جاسم ماطلعت شمس وغربت ، وحفظ لك يوسف ليكمل مشوارك ، وقد صدق أخي الاستاذ عباس البلداوي عندما قال :

 

لقد قضى الجودُ نحباً بعد حاتَمهِ .. لكنما حاتمُ الهذال أحياهُ 

 

الصورة لأخي الشيخ محمد علي الحاتم ، طاب ثراه ، والثانية لنجله يوسف حفظه الله .





تعليقات

أحدث أقدم