ما بين الداخل الأميركي و"جاروبوس" السري جدا

مشاهدات


 ماريا معلوف  

متخصصة بالسياسات الأميركية وشؤون الشرق الأوسط


 
عند الحديث عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة يجب علينا القول إنه لطالما كانت كثير من دول العالم ترسم سياساتها بالنظر إلى الموقف الأميركي حتى ولو كان هناك قليل من التباين وكذلك يبقى أخذ الرأي والوجهة الأميركية في الحسبان واضحا في تبني تلك الدول لذلك الموقف من غيره . نلحظ هذا الأمر بوضوح في عالمنا العربي في العقود الماضية . وحتى تلك الدول التي كانت تعلن العداء للولايات المتحدة مثل سوريا والعراق وليبيا فقد كانت تأخذ في الحسبان قبل الإقدام على موقف ما الخاطر الأميركي وهو ما نلاحظه في قول الرئيس الراحل صدام حسين للسفيرة الأميركية أبريل غلاسبي بعد ساعات من غزوه للكويت أنه يمكن أن يكون شرطي أميركا في المنطقة أن تم قبول الولايات المتحدة لذلك الاحتلال وأيضا نرى تلك الصورة بوضوح في الطلب السوري من الجانب الأميركي القبول باحتلاله لبنان ثمنا لمشاركته في إخراج القوات العراقية من الكويت . كانت تلك مقدمة لا بد منها عن نظرة الدول للموقف الأميركي فيما يخص شؤون تلك الدول اما في الداخل الأميركي فلا شك أن معظم الساسة والاقتصاديين يتساءلون في أحيان كثيرة عن الدافع من وراء تبني موقف دون غيره في قضايا سياسية خارجية ، إذ أن المصالح الأميركية قد تصطدم مع أطروحات إحدى الحزبين المعلنة دوما .

 

لكن السؤال هنا : هل هناك أمور داخلية في الولايات المتحدة تضغط على تشكيل السياسة الخارجية في أمر ما ؟

الإجابة بالقطع :  نعم . ذلك أن خروج الولايات المتحدة من بعض مناطق الصراع في العالم كان بالأساس عبر ضغط داخلي ساهم فيه الإعلام بشكل واسع .

 

ذلك الإعلام الذي يرى في الشرق الأوسط مستودعا لكثير من المصالح الأميركية يرى اليوم أهمية خاصة في تشكيل الرئيس بايدن لخريطة جيوسياسية في الشرق الأوسط لتطبيع العلاقات بين بقية الدول العربية وإسرائيل وتلك ولا شك - إن حدثت- ستكون أحد أهم النجاحات الأميركية في التاريخ الجيوسياسي الحديث على مستوى الشرق الأوسط حيث أن السعودية على سبيل المثال تمتلك قيادة العالم الإسلامي وبالتالي فنجاح بايدن في الحصول على ذلك السلام لا يقل بحال من الأحوال عن نجاح الرئيس كارتر في التوصل لسلام بين مصر وإسرائيل عام 1979. وأيضا فسيكون هذا الأمر في حالة نجاحه بمثابة الداعم لإعادة انتخابه من خلال النظرة الداخلية في الولايات المتحدة كون ذلك سيرضي طموحا استراتيجيا أثار اهتمام الرؤساء الأميركيين والحزبين وحتى كثير من الشعب الأميركي على مدى الـ50 سنة الماضية . فالشرق الأوسط إن كان متماسكا فذلك يشكل أمرا في غاية الأهمية للولايات المتحدة التي تتشتت جهودها في إصقاع الأرض عبر المواجهة مع الصين وروسيا والاقتصاديات الكبرى التي ستنشئ في العالم وعموما فإن الداخل الأميركي حسب ما فهمت هنا في واشنطن وبالقرب من الكابيتول يرى أن الاتفاق سيتم التوصل إليه بشكل نهائي خلال 6 أشهر شرط تقديم إسرائيل تنازلات تخص تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولة . من نافلة القول هنا أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ومنطقة الشرق الأوسط تشكل أهمية حاسمة للولايات المتحدة ولأن كانت مواجهة الشيوعية هدفا فإن احتياطيات النفط الهائلة في الشرق الأوسط كانت على الدوام الشغل الشاغل للولايات المتحدة وقادتها وسياسييها . وأذكر هنا أنه ومنذ سنوات التقيت ولمرات عديدة زبغينو بريجنسكي والذي كان مستشارا للأمن القومي في عهد الرئيس كارتر وأخبرني أنه هو من صاغ ما عرف في العام 1980 بـ"عقيدة كارتر في الخليج" وأنه هو من كتب بخط يده أن تلك العقيدة تعتبر محاولة أي قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج اعتداء على المصالح الحيوية للولايات المتحدة وسيتم صد ذلك بأية وسيلة ضرورية بما في ذلك القوة العسكرية .

 

خلال حوار مع سيناتور أميركي في الساعات الماضية سألته: كيف ينظر الداخل الأميركي إلى بايدن اليوم فيما خص سياساته الخارجية خصوصا في الشرق الأوسط فكانت إجابته هي تذكيري بمقال نشره الرئيس بايدن قبل عام تحت عنوان لماذا أنا ذاهب إلى المملكة العربية السعودية ؟ كانت خلاصته أن الممرات المائية ومصادر الطاقة في منطقة الشرق الأوسط لا يمكن أن تستغني عنها أميركا وأن قناعة الداخل الأميركي هي كذلك أيضا لكنني دهشت عندما قال لي: لا تنس يا سيدتي أن سياسات بايدن وأن أدت إلى زيادة نفوذ روسيا والصين في الشرق الأوسط فإن هناك ظروفا كثيرة يمكن أن تفتعلها إدارة بايدن من أجل إيجاد أزمات متجددة في الشرق الأوسط . في رأيي فإن الحزبين الديمقراطي والجمهوري وإن كانا فاعلين في السياسة الخارجية اليوم للولايات المتحدة فإن الأطراف القومية والمنظمات المندرجة تحت العولمة وحتى الشعب الأميركي باتت جميعها تؤخذ في الحسبان كعوامل في صنع القرارات فيما خص السياسات الخارجية للدولة الأميركية وما بين المصالح القومية ونظرة أميركا لأصدقائها في الشرق الأوسط  وما بين رغبتها في إقامة علاقات ودية مع أية دولة ذات موقع استراتيجي فإن القيم لا يمكنها أن تتفوق على اعتبارات مصالح الأمن القومي الأميركي عبر السياسة الواقعية العملية الملموسة وحتى لو أرادت أميركا البحث في إمكانية تغيير البوصلة في سياستها اليوم في الشرق الأوسط فإن هناك خيارات أخرى يمكن أن تصطدم بذلك التغيير أو التعديل المحتمل . فالأهمية الاستراتيجية للهند مثلا لا يمكن معها استحواذ الولايات المتحدة على حرية استغلال المرور في المحيطين الهندي والهادي ولا حتى الضغط على أكثر من نصف دول العالم يمكن أن يجمح رغبات تلك الدول في التنسيق مع الصين والاستفادة من اقتصادها الضخم جدا، ناهيك عن رغبة بعض الشركات الأميركية في الداخل بتسهيل أعمالها مع المارد الصيني .

 

اليوم ومع السؤال الأكثر ترديدا.. هل أميركا تريد إصلاح أو تغيير بوصلة سياستها في الشرق الأوسط ؟ وهل تريد بناء تحالفات جديدة في العالم ؟

 

وأقول هنا إنه ولأول مرة تم الكشف خلال الساعات الماضية وعلى لسان الصحفي الأميركي جوش روجين في صحيفة واشنطن بوست أن بين يديه تقارير من داخل الكونغرس لا يمكن نشرها الآن عن أن الولايات المتحدة بدأت في مفاوضات مع اليابان والفلبين حول قيام تحالف يكون اسمه "جاروبوس" يجمع الدول الثلاثة سيشكل تهديدا قويا للصين ونفوذها الاقتصادي في الشرق الأوسط ناهيك عن أن اليابان هي في تحالف أمني مع الهند ضمن تحالف "كواد"، والذي يضم أميركا والهند وأستراليا واليابان . في خلاصة فقد باتت كثير من الدول والتحالفات تشكل تحديا إقليميا واقتصاديا للولايات المتحدة وباتت بضاعة "القضايا المرتبطة بحقوق الإنسان" لا تشكل ذاك الاهتمام في مقابل المصالح الاقتصادية ضمن وجدان وأطروحات الشعب الأميركي . وبات تحصين العلاقات مع كثير من الدول - وليس تقويتها- هو الشغل الشاغل للإدارة الأميركية التي باتت بوصلتها عاجزة عن النظر في اتجاه واحد .

تعليقات

أحدث أقدم