ضرغام الدباغ
في إحدى اجتماعات مجلس الوزراء المصري (في أواخر الستينات) ، أراد أحد الوزراء أن يزف بشرى للرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، فقال للرئيس، " سيادة الرئيس لدي تقرير من إحدى المنظمات الدولية تشيد بأداء الاقتصاد المصري وهذا هو التقرير تفضل ".فأجابه الرئيس الراحل ،" لا أعتقد أن التقرير هذا يقصد الثناء على أدائنا، بل حتماً هناك خلل ما يقصدون إلهائنا عنه ، وعلينا أن نجد هذا الخلل هذه المنظمات تعمل تحت سيطرة الإمبريالية التي تحاربنا ليل نهار، بأعلى الأساليب وأكثرها انحطاطاً، فتش عن الخطأ في عملنا سيادة الوزير ". قلت أن هذا حدث في نهاية الستينات، في مرحلة كانت تجارب الرئيس الراحل قد بلغت درجة عالية من النضج ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الرمادي ناهيك عن الخط الأسود الحالك السواد . والسياسة السوداء الحالة السواد هي ما تمارسه الولايات المتحدة حيال كل نظام وطني تبدر منه مؤشرات التقدم والقوة والمنعة ... وخصوصا النظام المصري الذي لا ينبغي أن يخرج عن السيطرة مطلقاً، والأمريكان لا يفهمون شيئاً عدا مفاهيم القوة والسيطرة وسياسة الإذعان، وإبقاء الأنظمة في خدمة مخططاتها المحلية والعالمية .
القيادة المصرية رفضت أن تستجيب كليا للمطالب الأمريكية ومنها :
• أرسلوا أسلحة جيشكم إلى أوكرانيا .
• إلقاء الشبهات حول مكانة الجيش المصري، فنحن نريدكم أن تبقوا ضعاف تحت هيمنتنا .
• لماذا تطورون البنى الأرتكازية في مصر (Infrastructure)، (البنى الأرتكازية هي الخطوة الأولى نحو النهضة الاقتصادية الشاملة) .
• لا ينبغي لكم أن تكون لكم علاقات خارجية متوازنة مع روسيا والصين مثلاً .
• لماذا تضايقون أثيوبيا بشأن مياه نهر النيل وسد النهضة .
• لماذا تحاولون لعب دور مهم في القارة الأفريقية، فنحن من يوزع الأدوار ..! .
من هذه المؤشرات الواضحة تماماً، أن هذا ضرب من الاستعمار أسوأ من الأنظمة الكولونيالية القديمة، فهو يتدخل في كل شيء ، ويحول الدول إلى مجرد كيانات بخدمتها، ونفهم أن الإدارة الأمريكية يزعجها أن يتمتع حلفاؤها بصحة جيدة، وإن تمتعوا بالصحة الجيدة ، فيجب أن يكونوا تحت إمرتنا وقادتنا بصورة تامة 100% وأقل من هذا بمليمتر واحد لا نقبله حتى من بريطانيا ، وفرنسا وألمانيا حلفاؤنا المقربين في أوربا ، والرضوخ التام يعني دعوا إسرائيل تقود المنطقة بالوكالة ، وتحت الهيمنة الكلية للولايات المتحدة ، فهي ( الولايات المتحدة ) وهذا عجيب ، لم تتعظ بهزائمها المرة ، وبخسائرها للمنازلات السياسية والاقتصادية والعسكرية ، ومساحة حلفائها تتقلص يوما بعد يوم ، ولكنها لا ترعوي . .ولا تتمعن في معطيات الواقع الموضوعي بدقة ... مصر اليوم تناهز 110 مليون نسمة ، وهؤلاء بشر تتضاعف حاجاتهم الانسانية ، وإنتاجهم على كافة المستويات، وكبلد كبير (أكبر بلد في افريقييا) له همومه الأمنية ( المياه في مقدمتها ) وهي موضع تآمر من قبل أمريكا ، والكيان الصهيوني يتمادي في غيه وعدوانه ، وأميركا لا تريد لجمه ، بل تشجعه على العدوان ، ورغم ذلك تريد من الجميع القبول بهذا التسع والتساهل مع المعتدي ..!
بأختصار شديد ... حين نجد الولايات المتحدة ، تناهض النظام المصري، وتتآمر عليه بكافة الأساليب ، فهذا يعني أن النظام المصري يدخل في عمق وظائفه ، ويتصدى للمشكلات الأساسية ، ويجد الحلول لها ، وهو في طريقه لأستخدام أمثل للقدرات والثروات الطبيعية، وتعبئة جيدة للقدرات البشرية . ومواقف صائبة حيال المواقف المحلية والعربية والأفريقية والعالمية .. تثير الولايات المتحدة لغطا شديداً للبنى الأرتكازية (Infrastructure) في أن اقتصادات التنمية ، تشترط أن البنى الارتكازية هي الشرط الأساسي للإقلاع بعملية تنمية حقيقية، وحلول جذرية وليس ترقيع للمشكلات ، ومصر بخطوط سكك حديدية حديثة ، وجسور، وقنوات، ومعالجة طموحة لمشكلات المياه ، والإسكان ، وتلبية لحاجات الإنسان الأساسية ، تضع مصر على الطريق الصحيح ، والبنى الارتكازية ليس لها مردود مالي مباشر، ولكنها تفتح الطريق لنهوض اقتصادي عام ، وهذا هو ما يزعج الولايات المتحدة ، أن تجد مصر تلعب دوراً مهماً وهي تتطور بعلمية وتتقدم بخطى ثابتة، وهو ما يستدعي أن تتحرك أمريكا ضدها .
إرسال تعليق