مدرسة بعقوبة الابتدائية الأولى

مشاهدات



أ.د .تحسين حميد مجيد

جامعة ديالى



استحدثت الدولة العثمانية في سنة 1274هـ /1857م وحدة إدارية بإسم قضاء طريق خراسان ، ومن ثم اختصر بقضاء خراسان. وكانت حدود القضاء : شمالاً ولاية الموصل وقضاء سامراء غربًا الكاظمية، ويتم بقضاء سامراء وجنوبًا العزيزية وبغداد، وشرقًا قضاء مندلي وخانقين، وذلك في ولاية عمر باشا على بغداد، كما ورد بسلانامة بغداد . وكان أول قائم مقام للقضاء سليمان فائق بك المتوفى سنة 1896م ، ولم تكن في بعقوبة آنذاك مدرسة حكومية حتى اُتخذ الرباط الواقع في شرق خريسان الذي يعود إلى أحد مريدي وتلاميذ الشيخ علي بن إدريس البعقوبي المتوفى 619  هـ . ومن هنا جاء القسم الواقع شرق جدول خريسان بإسم محلة التكية نسبة إلى هذا الرباط والتكية. كان عدد غرف التكية سبعة غرف وحرمًا واحدًا، وظلت هذهِ المدرسة الابتدائية في هذهِ البناية ، حتى بنى القائم مقام فايق بك سنة 1913م مدرسة في الجانب الغربي من نهر خريسان، وهي محلة السراي، وقد سميت بالمدرسة الأميرية ، ومن ثم مدرسة بعقوبة الابتدائية الأولى، وكانت تحوي على ستة صفوف ، ثلاثة منها : ابتدائية ، وثلاثة صفوف رشدية ، فإذا أراد الطالب أنْ يكمل دراسته الثانوية ، فعليه أنْ يذهب إلى بغداد .

 

ظلت هذهِ المدرسة قائمة إلى الستينات تمثل أحد الرموز الثقافية والحضارية في المدينة . ذلك إِنَّ المدرسة المذكورة لم تكن مجرد بناية تقليدية ، وإِنَّما بُنيت على الطراز الإسلامي خصوصًا بوابتها الرائعة ذات النقوش الإسلامية البديعة ، وصفوفها الواسعة ذات التهوية الطبيعية ، وذلك بفضل سقوفها العالية ، ونوافذها العملاقة وأرضيتها المرصوفة بالطابوق المربع ، وكذلك ساحاتها الواسعة، فضلاً عن موقعها الواقع غرب جدول خريسان ، تحيطها الأشجار وبساتين النخيل والبرتقال من ثلاث جهاتها . ولا أعلم كيف تجرأ القائمون في اللواء على إزالة هذا المعلم الشامخ والرائع  لتبني مكانه بناية بائسة ليس فيها أي فن معماري، وإِنَّما مجرد جدران خرساء لا تقارن مع البناية القديمة . مضت الأيام وكان القائم مقام فايق بك حيًا حتى سنة 1967، وقد زار العراق سنة 1954 رجل ضيفًا عند الأستاذ طالب مشتاق السياسي المخضرم كان الأستاذ طالب من أهالي بعقوبة بحكم وجود والده مديرًا للتحرير في القائمقامية  ثم عُين  معلمًا  في مدرسة الهويدر الابتدائية قبل الحرب العالمية الأولى، وكان أحد الطلاب في مدرسة بعقوبة ، لذلك فإِنَّ أحسن من كتب عن مدرسة بعقوبة ومؤسسها فايق بك . يقول طالب مشتاق في مذكراته : إِنَّ فائق بك جاء قائمقامًا لقضاء بعقوبة سنة 1912، وكنت لا أزال آنذاك تلميذًا في المدرسة الرشدية في بعقوبة ، وكان يأتي إلى مدرستنا كل يوم تقريبًا للتفتيش.. يدخل إلى الصفوف ويمتحن الطلاب ويراقب سير التدريس، ويأتي إلينا بنسخ من مجلة (التدريسات الابتدائية) التي يصدرها يومذاك ساطع الحصري في استانبول ويحفظنا بعض المقطوعات الشعرية منها . كان حريصًا جدًا على أنْ يسير العمل في المدرسة سيرًا منتظمًا، وأن يقوم المعلمون بواجباتهم على أكمل وجه، وكان المرحوم حسن غصيبة مدير مدرستنا يومئذٍ مدمنًا على شرب الخمر والسهر إلى ساعات متأخرة من الليل وفي الغالب لا يحضر الدرس الأول في الصباح ، وقد لاحظ  فائق بك هذا، فلفت نظره مرة ومرتين وقال لَهُ : إذا لم تواظب على الدوام في الوقت المناسب يوميًا سأطردك من المدرسة وأعيدك إلى بغداد من دون إنذار . ويضيف الأستاذ طالب مشتاق: إِنَّ فائق بك زار بغداد في ربيع سنة 1954 ونزل ضيفًا كريمًا عزيزًا عليَّ وبقي في هذهِ الديار التي يحبها حبًا جمًا لمدة شهرين، رافقته في خلالها في أثناء زيارته بعقوبة... وعندما سمع أهالي بعقوبة بمجيئه إلى بغداد ورغبته في زيارة بعقوبة أتى منهم  وفد في حوالي عشرين سيارة واصطحبوه من بغداد إلى بعقوبة، وكان يوم وصوله إلى بعقوبة كعيد مرتقب استقبله الأهلون بكل حفاوة وإكبار وتبجيل، حتى أَنَّ أصحاب المقاهي صاروا يسقون موكبه وجميع المارة في الطريق القهوة مجانًا.. وكان هو يستقبل هذا التكريم بدموع الاعتراف بالجميل، وكان يسير ومنديله في يده يجفف بِهِ دموع عينيه ، دموع الشعور براحة القلب واطمئنان الضمير . وأقام  لَهُ الوجيه حسين علي الضامن في داره العامرة مأدبة غذاء فاخرة دعا إليها كل إشراف القضاء ووجهائه . ولما غادرنا بعقوبة في طريق عودتنا إلى بغداد ودعه عدد كبير من الناس حتى الجانب الآخر من نهر ديالى.. وفي الطريق كان يتكلم والتأثر باد على محياه مما رأى وسمع .. فقلت لَهُ : ليس هذا بالأمر العجيب يا سيادة البيك إِنَّك تحصد ما زرعت، وإِنَّ أهالي بعقوبة لم ينسوا أياديك البيضاء على منطقة ديالى برمتها .

 

عرف أهالي بعقوبة فائق بك إداريًا حازمًا، وموظفًا نزيهًا، ومساعدًا للضعيف المغدور، وعدوًا لدودًا للقوي الظالم ، لا تأخذه في الحق لومة لائم ، من أعماله العمرانية إضافة إلى بنائه المدرسة الابتدائية بناءه فندق كبير استخدم بعد السقوط دائرة لمديرية الشرطة ثم أصبح مركز لبلدية اللواء ، وهو أول من أسس ماكنة لطحن القمح ، ومعمل الثلج في بعقوبة ، وجدد الجسر على نهر ديالى، وفتح شارعًا في أثناء الحرب العالمية من منتصف شارع الجسر مخترقًا البساتين الواقعة في الجهة الشمالية من مركز بعقوبة ، وكان يمتد هذا الشارع  إلى الطريق العام الذي يؤدي إلى شهرابان كي لا تضطر الجيش التركي التي تساق إلى جهة إيران أنْ تمر بداخل سوق بعقوبة حفظًا لراحة الأهالي وتسهيلاً لسير الجيش . ومن أعمال القائم  مقام  فايق بك العمرانية التي كانت موجودة إلى وقت قريب هي قنطرة خليل باشا قرب محلة السوامرة ، التي بُنيت من الآجر وقد وضع في جانب من مدخلها لوحة من الرخام كتب على الجانب الأيمن (شارع خليل باشا) لأَنَّ خليل باشا كان آنذاك والي بغداد ، وعلى الجانب الأيسر كتب من آثار القائم مقام  فائق بك ولكن حكومة الاحتلال رفعت هذهِ اللوحين بعد دخولها لعراق . وفي العهد الجمهوري أُزيلت هذهِ القنطرة وأقيمت مكانها قنطرة جديدة من الخرسانة المسلحة ، ولكن الأهلين لا زالوا يسمون هذهِ القنطرة بقنطرة خليل باشا . إِنَّ معظم أصدقاء هذا القائم مقام في بعقوبة  قد  لقوا  ربهم ، ولكن أولادهم وأحفادهم لا يزالون يذكرون فايق بك ، وإن لم يعرفوه شخصيًا .. وإِنَّهم سمعوا الكثير عنه من آبائهم أو أجدادهم وهم  يكنون لَهُ  في قلوبهم كل محبة وإعجاب وتقدير، وأذكر أَنَّ القائم مقام المذكور حينما جاء إلى بعقوبة كنت شابًا في مرحلة المتوسطة وسمعت بأخباره من الناس . وسمعت أَنَّه سأل عن بعض أصدقائه القدماء فقالوا لَهُ إِنَّهم توفوا ، فذهب إلى مقبرة أبو إدريس لقراءة الفاتحة والترحم عليهم . ثم طلب لمشاهدة المدرسة التي بناها، ولكنه فوجئ بتهديمها وإقامة بناية جديدة بدلها فتأثر كثيرًا لهذا العمل، فقد كانت أُمنيته أنْ يرى مدرسته القديمة التي بناها سنة  1913 م . هذا وقد احتفلت مديرية تربية ديالى هذهِ السنة بمرور مائة عام على تأسيس مدرسة بعقوبة الابتدائية، وكنت أحد الحاضرين هذا الحفل، وقد عدت بذاكرتي إلى الأربعينات حينما كنت أحد طلابها ولما طلبت سجلات الطلبة وتصفحتها مررت بأجيال متعاقبة من العشرينات ، والثلاثينات، والأربعينات، وما بعدها .. 

 

إِنَّها مسيرة ثقافية طويلة تروي قصة التربية والتعليم في بعقوبة ومحافظة ديالى


تعليقات

أحدث أقدم