د. محمّد النغيمش
كاتب كويتي
كان باني باريس الحديثة ينظر بعين الإعجاب إلى لندن لنظافتها ، وجمال حدائقها، وتناسق مبانيها . وعلى النقيض كانت باريس في القرن الثامن عشر، تعاني كثافة بشرية هائلة حشرت فيما تبقى من أحياء بالية من العصور الوسطى . وانتشرت فيها الروائح النتنة ، وكانت عُرضة للأمراض الفتاكة لتكدس البشر . فاقترح نابليون الثالث على رجل الدولة جورج أوجين هوسمان أن يُعيد بناء ما أصبحت لاحقاً إحدى أكثر العواصم السياحية ارتياداً في العالم .
ولولا عاطفة القائد العسكري الألماني الذي لم يمتثل لرغبة زعيمه النازي هتلر في دكّ باريس بالصواريخ في الحرب العالمية الثانية ، لَطُمست عاصمة الجمال مرتين . ما حدث في باريس على يد هوسمان مثال يُحتذى في التخطيط العمراني . فقد هُدِمَ بين عامَي 1853 و1870 نحو 20 ألف مبنى تاريخي ، وشُيِّد نحو 34 ألف مبنى جديد . ومُدَّت شبكة أنابيب الغاز تحت الأرض لإضاءة الطرقات، والمباني، والأشجار. وتحولت الأزقّة الضيّقة إلى شوارع عريضة ، وبنايات على الطراز الكلاسيكي بواجهات بيضاء وفخمة لترسم معالم باريس الحديثة . ما حدث هو ما وصفه هوسمان في مذكراته بأنهم «مزَّقوا أحشاء باريس» واستبدلوا بها بنية تحتية عصرية ، وضواحي راقية ، ونوافير، ومتاحف، وحدائق على غرار الهايد بارك في لندن . وكانت تلك الشوارع الفسيحة عاملاً مهماً لعزل الثوار والمتمردين في أحيائهم وسبباً لسهولة تنقل رجال الأمن . والمفارقة أن مَن شيَّد باريس الجديدة لم يتلقَّ تدريباً في التخطيط العمراني ولم يكن يحمل شهادة في الهندسة المعمارية ، لكنّ هوسمان كان قائداً محنكاً لتلك المهمة .
وقال عنه الإمبراطور نابليون الثالث بعد مقابلته عام 1853م : «كان أمامي أحد أكثر الرجال تميزاً في هذا الوقت ؛ ضخم البنية ، وقوي وذو همة ونشاط ، وفي الوقت نفسه ذكي ومراوغ ولديه حلول ناجعة لكل المشكلات» ، حسب تقرير للزميل جوناثان غلانسي من «بي بي سي» . ولم يكترث لانتقادات من حوله ولا لعاطفته، فقد شملت أعمال الهدم منزله الذي وُلد فيه في (55 شارع فوبورغ دي رول) ليطوي ما تبقى من ذكريات الطفولة . باختصار؛ نجح في إعادة رسم الكثير من شوارع باريس على شكل ميادين دائرية كما نعرفها ، أي دوار مروري تنطلق منه أشعة على شكل طرق ومبانٍ مثلَّثة . ويشكل ميدان قوس النصر قلب العاصمة باريس كأنه قرص الشمس الذي تنطلق منه أشعة الحرية . غير أن دوام الحال من المحال، فقد تكالب على هوسمان خصومه واتهموا حملته بالتبذير المبالَغ فيه . حتى أُجبر على الاستقالة في عام 1870، إلا أن خطته في التطوير العمراني استمر العمل بها حتى عشرينات القرن الماضي، ووصلت ملامحها إلى مصر قلب «وسط البلد» في القاهرة ، وهو مؤشر على أن رجل الدولة قد يدفع الثمن غالياً لأسباب سياسية أو شعبوية ، لكن التاريخ هو ما ينصف جهود المخلصين .
إرسال تعليق