كاتب صحفي
لن يعرف أحد بدقة ما حدث يوم 7 أكتوبر، حين استعادت المقاومة الفلسطينية بعض الأرض المحتلة لساعات قبل أن يقضي عليها الجيش الإسرائيلي ويبدأ قصف غزة . لا استثناء في ذلك ، فلا مخابرات إسرائيل بكل أجهزتها وابتكاراتها التكنولوجية ولا دول الجوار التي قيل إن إحداها حذرت إسرائيل مسبقا، ولا حتى قادة حماس في قطر ولبنان وغيرها . بل ونزيد ، من قراءة ردود الفعل الأولى ، ولا حتى إيران التي يقال أيضا إنها تسلح بعض فصائل المقاومة . ولو أن أحدا غير المقاتلين الذين قاموا بالعملية من كل فصائل المقاومة الفلسطينية ، كان يعرف ما كانت نجحت ولا أدت إلى رد الفعل الانتقامي الحالي بقصف وتدمير قطاع غزة ، بل والدفع باتجاه "الحل النهائي" عبر نقل قسري للفلسطينيين إلى دول الجوار . بل إن تصريحات ومقابلات قيادات الفصائل منذ البداية تشير إلى أن أحدا لم يعرف بما سيجري سوى من قاموا به فقط. ذلك لأن لإسرائيل ، وغيرها جواسيس بين الفلسطينيين وحتى في فصائل المقاومة ذاتها . لذا، لا يتوقع أن تفضي أي تحقيقات تجريها إسرائيل أو غيرها فيما حدث إلى معرفة تفاصيل ما جرى، وكما يقول الانجليز "إذا أردت دفن موضوع ، شكل له لجنة تحقيقات". فمن عرفوا قتلوا جميعا على الأرجح، ولم يعد أيا منهم إلى غزة . ومن اعتقلهم الجيش الإسرائيلي بعد العملية في الأغلب ليسوا على علم بتفاصيل .
ما حدث بعد ذلك أمر مختلف تماما، إذ أفاقت إسرائيل من الصدمة بعد ساعات وكان مما قامت به السلطات الإسرائيلية حسم شكل "الرواية" تماما بالتركيز على اقتحام المستوطنات وإرهاب المدنيين (رغم أن أغلب المستوطنين مسلحين ولطالما يروعون الفلسطينيين بسلاحهم) . ودفن أي إشارة لمحاصرة المهاجمين قواعد عسكرية إلى حد قرب السيطرة عليها . إنما الأخطر حقا ، والذي تعيش المنطقة تبعاته الآن ولفترة طويلة قادمة، هو التركيز فقط على حركة "حماس" وأن ما جرى هو "هجوم إرهابي من حماس على إسرائيل" يبرر لها أي شيء تفعله بعد ذلك . وبغباء سياسي ليس مستغربا على كل اشتقاقات جماعة " الإخوان " انتشى قادة الحركة، خاصة في الخارج ، بالرواية الإسرائيلية وكأنهم حرروا فلسطين . نجحت إسرائيل في تحويل الأمر كله إلى "صراع ديني" وفر لها دعما غربيا غير مسبوق باعتبارها تحارب الإرهاب. فحركة حماس مصنفة جماعة ارهابية في كثير من دول العالم، ولا يجرؤ أحد على معرضة مكافحة الإرهاب وإلا وقع تحت طائلة القانون. والحقيقة أنه منذ تأسست حركة حماس عام 1988 وإسرائيل ترى فيها "صنوها" المناسب فلسطينيا، حتى قبل اقرار حكومة نتنياهو السابقة القانون الأساسي بيهودية الدولة عام 2018 . ولأن الإعلام الغربي يستقي روايته من إسرائيل أكثر، فهو يعمل منذ اليوم الأول على ترسيخ مسألة "الحرب الدينية" ويجد في تصريحات السياسيين الغربيين مادة داعمة لذلك. ويساعد على ذلك أيضا بعض الخطاب العربي، الذي يستخدم تعبيرات "العدوان على المسلمين" وعودة نشاط مجموعات إخوانية خاصة على وسائل التواصل. كل ذلك يعزز الرواية الإسرائيلية ويغطي على الجرم الذي لا علاقة له بدين ولا حتى إنسانية بقصف النساء والأطفال وتدمير الأحياء والبلدات بحجة مكافحة الإرهاب والقضاء على حركة إرهابية .
وكما أن يصح القول إن نصف الإسرائيليين رفضوا يهودية الدولة قبل 5 سنوات (مر القانون في البرلمان بأغلبية ضئيلة جدا ونتيجة امتناع نائبين عن التصويت) فإن الفلسطينيين ليسوا حركة حماس ولا الجهاد، والصراع في فلسطين ليس صراعا دينيا، حتى رغم أن الانتداب البريطاني جاء بالمهاجرين إلى فلسطين مطلع القرن الماضي تحت مبرر "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين". لكن كثيرا من اليهود، ومنهم أصدقاء أوروبيون كثيرون، يرفضون تماما استخدام دينهم غطاء للاحتلال وعدم منح الفلسطينيين حقوقهم . حين تكون النيران مشتعلة، يصعب التفكير بعقلانية وتطغى ردود الفعل المشاعرية والشعبوية. ويلعب الإعلام للأسف الشديد دورا كارثيا في تأجيج ذلك وترسيخ المفاهيم الخاطئة التي تصبغ في النهاية الرأي العام العالمي والمحلي بصبغات مشوهة. ولكل منطلقاته، وخاصة الإعلام الغربي الذي ينطلق من انحياز يقترب من العنصرية كما ظهر بوضوح في بداية الحرب الأوكرانية العام الماضي. ويصل الأمر الآن إلى ما سمعته من صديق صحفي مخضرم في واحدة من أعرق الصحف البريطانية قبل يومين حين قال إنه "أحيانا أخجل من أني أعمل بهذه المهنة الآن" . إنما الكارثة الحقيقية هي في القيادات السياسية، سواء لحركات تتسربل بالدين، أو حتى لقوى وطنية تناصر القضية الفلسطينية لكنها تقع في فخ دعم رواية "الحرب الدينية". ولا يدرك كثيرون أنه مهما طالت الحروب ومهما كانت بشاعتها ونتائجها الكارثية بشريا وماديا فإنها في النهاية ليست إلا امتداد للسياسة بطريقة عسكرية. وأن التفاوض على حلول قادم لا محالة، وفي تلك الحالة فالخاسر الأكبر من تصوير القضية على أنها صراع ديني هو نحن وليس الطرف الآخر. فالعالم يقبل رسميا بإسرائيل كدولة دينية كما يقبل بإيران كجمهورية إسلامية. أما الحركات والفصائل التي جذرها الإخوان فهي أمام الجميع ليست بعيدة عن القاعدة وغيرها من التنظيمات الإرهابية.
إرسال تعليق