حرب غزة : ارتباك فرنسا

مشاهدات

 

محمد قواص 

كاتب سياسي لبناني


انضمت فرنسا بقوة إلى كل البلدان الغربية التي أبدت دعماً كاملا غير مشروط لإسرائيل إثر العملية التي شنّتها "حماس" في 7 اكتوبر الجاري. أدانت باريس بأشد العبارات العملية ووصفتها بـ "الإرهابية" ودافعت عن "حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها"، ووجدت التبرير تلو التبرير لسقوط مدنيين فلسطينيين في قطاع غزة . غير أن السياق لا يشبه فرنسا . تفرّدت باريس تاريخيا بموقف متمرّد على المزاج الغربي العام الذي تقوده الولايات المتحدة بشأن المسألة الفلسطينية والموقف من إسرائيل. صحيح أن برنامج إسرائيل النووي وصولا إلى صناعة قنبلة نووية إسرائيلية هو نتاج تعاون مع فرنسا بدأ منذ الخمسينات، غير أن حرب الأيام الستة في عام 1967، قلبت رأسا على عقب موقف فرنسا الضبابي، فخرج الرئيس الراحل الجنرال شارل ديغول بموقف منتقد لإسرائيل معلنا حظر فرنسا تصدير السلاح إلى إسرائيل . مذاك تأسّست "سياسة فرنسا العربية" التي التزم بها كل الرؤساء اللاحقين سواء في عهود اليسار أم عهود اليمين . برزت تلك السياسة واضحة في التعامل الفرنسي مع القضية الفلسطينية . عبّرت تيارات وأحزاب وتشكّلات سياسية من كافة المشارب خلال العقود الماضية عن مواقف متعاطفة مع الفلسطينيين حتى حين كانت كافة دول المنظومة الغربية تدرج منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل المنضوية تحت سقفها على لوائح الإرهاب . وفي كل مرة شهدت فرنسا قلاقل وتحوّلات واحتجاجات كبرى، على نسق "ثورة مايو" 1968 ومثيلاتها سواء في تحرّك "السترات الصفر" عام 2018 أم حتى في الاحتجاجات ضد إصلاح نظام التقاعد مؤخرا، كان العلم الفلسطيني دائم الحضور . 

 

وعلى الرغم من دعم الحزب الاشتراكي الفرنسي، كما بقية الأحزاب الاشتراكية الأوروبية ، لإسرائيل تاريخيا، ووجود لوبي قوي داخل الحزب في فرنسا يعمل لصالح إسرائيل، غير أن رئيس الجمهورية الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران ذهب بعيدا في الالتزام بسياسة خصمه ديغول العربية سواء في التوجه في خطاب أمام الكنيست الإسرائيلي في مارس 1982 دعما لـ "قيام دولة فلسطينية مستقلة" أم، وخصوصا، بالدعوة اللافتة التي وجهها للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لزيارة فرنسا . في عهد ميتران استقبلت فرنسا في مايو 1989 عرفات . وكانت باريس أول عاصمة غربية كبرى تفتح أبوابها للزعيم الفلسطيني في وقت كانت عواصم الغرب، لا سيما واشنطن، تعتبر الرجل إرهابيا. وفي عهد ديغول حظرت فرنسا أي سلاح عن إسرائيل في سابقة كان لها ما بعدها داخل النادي الأوروبي الكبير والذي حافظ على سياسة متوازنة أو شبه متوازنه مقارنة بالموقف الأميركي من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي . وتميّز الاتحاد منذ "إعلان البندقية" لعام 1980 باعترافه بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، ومطالبة إسرائيل بالتوقف عن بناء المستوطنات واعتبارها غير شرعية وعقبة أمام تحقيق السلام في الشرق الأوسط . وفق هذه الخلفية التي باتت من ثوابت وقواعد الثقافة السياسية في فرنسا تشهد البلاد انقساما حادا يتصاعد كل يوم بشأن الموقف الواجب اتخاذه من الحرب في غزة . ذهبت الحكومة الفرنسية إلى رفض منح تراخيص لمظاهرات مناصرة للفلسطينيين، فيما استمر الجدل، كما الحال لدى وزارة الداخلية البريطانية، بشأن السماح برفع العلم الفلسطيني من عدمه. وشهدت استديوهات الإعلام الفرنسي مشادات حادة بين ممثلين عن اليمين واليسار، لكن أيضا داخل صفوف اليمين وصفوف اليسار. ويعتبر مراقبون أن عجز فرنسا، حكومة وتيارات سياسية واجتماعية عن اتخاذ موقف عاقل متّزن قد يقود البلد إلى اضطرابات داخلية خطيرة كلما تفاقمت المعارك في غزة، ما يهدد أهلية باريس لاستضافة الألعاب الأولمبية العام المقبل . وحتى تحالف اليسار وأنصار البيئة الذي يقوده السياسي اليساري الراديكالي جان لوك ميلونشون شهد تصدّعات لم تصل إلى حدّ الانقسام بسبب موقف الرجل وحزبه الرافض لإدانة العملية التي قامت بها حماس والمندّد بالحرب التي تشنّها إسرائيل في غزة . 

 

بالمقابل لوحظ أن حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف الذي تقوده مارين لوبن والذي لطالما اتُّهم تاريخيا بالعداء للسامية، حرص على اتّخاذ موقف داعم لإسرائيل ومتضامن مع يهود فرنسا بما يجعله وزعيمته في وضع أفضل في أي انتخابات وخصوصا تلك الرئاسية المقبلة . لا يشبه موقف حكومة فرنسا مواقف الحكومات التي تناوبت على السلطة منذ عقود . وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد انخرط في مشادة أثناء زيارته للقدس في يناير 2020 ونهر بالإنجليزية شرطيا إسرائيليا طالبا منه مغادرة كنيسة القديسة آن في القدس التي تعتبر أرضا فرنسية . وقد اعتبر المراقبون حينها أن ماكرون، واتّساقا مع الموقف الفرنسي المتميّز والتقليدي بشأن القضية الفلسطينية حاول تقليد نفس ما فعله الرئيس الديغولي الراحل جاك شيراك عام 1996 حين انخرط في مشادة مع الشرطة الإسرائيلية في شوارع القدس العتيقة بسبب سوء معاملة المقدسيين الذين احتشدوا للترحيب بالرئيس الفرنسي . والواضح أن ماكرون قد استنتج ذهاب فرنسا إلى حدود مفرطة لم تعرفها بلاده سابقا في دعم إسرائيل فحاول بصعوبة تصويب البوصلة والسعي لترميم ما تشوه في سياسة فرنسا التقليدية حيال العالم العربي والقضية الفلسطينية . تأخر في زيارة إسرائيل مقارنة بنظرائه في بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وغيرها، لكنه لم يراعِ "سياسة فرنسا العربية" وتأخر جدا في زيارة المنطقة. من إسرائيل، وحده دون غيره من نظرائه، اقترح معاملة حماس كما التعامل مع داعش وتوجيه التحالف الدولي ضدها، ثم ارتجل لاحقا من بروكسل دعوة أخرى لقيام "تحالف إنساني من أجل غزة". زار ماكرون رام الله والتقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس وأعلن مواقف أكثر توازنا، لا سيما لجهة أن "حياة الفلسطيني تساوي حياة الفرنسي وحياة الإسرائيلي". ذهب بعدها باتجاه عمان والقاهرة داعيا إلى "إحياء حلّ الدولتين".ومع ذلك فإن الموقف الفرنسي لم يرقَ إلى مستوى ما يناشد تكتل اليسار الراديكالي في البرلمان الفرنسي بإعلان موقف حازم مطالب بوقف إطلاق النار في غزة . وفيما تفصح السياسة الخارجية الفرنسية عن ارتباك وتردد في مقاربة الأزمة في المنطقة منذ اندلاعها، فإن مراقبين يستنتجون عجز باريس عن استغلال فرصة تاريخية نادرة لقطف ثمار تراكم من الاستثمار السياسي القديم والمتميّز في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وخسارتها لهذا التميّز. بالمقابل فإن خبراء فرنسيين لا يعتبرون أن في الأمر التحاقا بالموقف الأميركي فقط، بقدر ما يعبّر عن تراجع في مكانة فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي وداخل المشهد الدولي ناهيك من أعراض فشل يشبه الانهيار في سياساتها في أفريقيا ولبنان وضمور نفوذها وإطلالتها في الشرق الأوسط .

 

تعليقات

أحدث أقدم