ضرغام الدباغ
ابتداء منذ عام 1979 (بدء دراستي العليا / العلاقات الدولية ، بتخصص دقيق : سياسة التوسع الأمريكية في الشرق الأوسط ، الأطروحة موجودة في مكتبة الكونغرس الأمريكي) ومنذ ذلك الوقت وأنا أقرأ بكثافة وتخصص المصادر من الكتب والتقارير والبحوث عن الولايات المتحدة باللغات " العربية ، الألمانية ، وجزئيا بالانكليزية "، أي منذ 43 عاماً . ثم أستقر الرأي على دراسة موضوعة " سياسة التوسع الأمريكية في الشرق الأوسط لمرحلة السبعينات " (Expansionspolitik des USA in Nahenosten In der 70er Jahre) وكنت قد وجدت هذا العنوان هو الأنسب فأتفقنا على تغير العنوان ، وكان العنوان القديم هو " الاستراتيجية الأمريكية الشاملة في الشرق الأوسط لأعوام السبعينات " لأني وجدت أن محاولات الولايات المتحدة هو التوسع على كافة الأصعدة وفق تحليل علمي، مادي وموضوعي . وما يهمني الإشارة إليه ، أني قرأت (وأعترف أن الموضوعات السياسية/ الاقتصادية / العسكرية الأمريكية متعبة جداً، لسعتها أولاً، ولكثرة المصادر وبلغات عديدة، ثانياً والمعطيات التي تتطور بسرعة وبالطبع تتغير المواقف تبعاً لها ثالثاً، مع الحفاظ على الثوابت)، وكل هذا يدفع إلى قراءة لا حدود لها، وبحر من المعلومات لا ضفاف له، وهكذا توفرت لنا مصادر كثيرة، وكثرة المصادر نعمة ونقمة في آن واحد، وهذا يعني أن تكون لك ذاكرة جبارة ، وأتباع صارم متقن لنظام الكارت، وإن كان ذلك متعباً، إلا أنه يرسخ ما تقرأ في الذاكرة، وأمامك في علبة استخدامها سهل ترجع لها بسهولة عند الحاجة . بالطبع من الأشياء المتعبة بصفة خاصة، هي الدستور الأمريكي ، والعلاقة بين مؤسسات الكونغرس (النواب والشيوخ) وقانون الأنتخابات، وأبعاد القرار السياسي وقنواته، والأهمية الواقعية لهذه القنوات ودور العناصر المؤثرة ، والأجهزة الاستخبارية وتعتبر من القنوات الرافدة للقرار السياسي، بالإضافة إلى مجاميع الضغط ، (Pressure group ) (والرأي العام public openion ) ومؤسسات ومعاهد علمية تعمل على إنضاج القرار ومدى تأثيره، هي من الروافد المهمة الأخرى والتي لا تقل أهمية في التأثير على صياغة القرار السياسي النهائي .
ودون ريب، فإن اختيار شخص الرئيس الأمريكي هو أمر بالغ الأهمية، ومناقشة الاسم المقترح يدور في أوساط الحزبين الجمهوري والديمقراطي، بدرجات عالية من الكتمان ثم التوافق، ومن المحتمل بدرجة عالية ، أن يشارك في استشارات الأجهزة الاستخبارية ، ودوائر حساسة أخرى، لا تعلن في الصحافة ونشرات الأخبار، وعلى مدى أربعة سنوات، يدرس تاريخ وسيرة المرشح من جميع الجوانب، لكي يأتي ممثلاً للمصالح الأمريكية بدرجة عميقة ، فالأمر (منصب الرئيس) لا يحتمل الخيارات الخاطئة ، أو التراجع عنه بعد انتخابه ، وأن يمتثل الرئيس للقرار المتخذ بدرجة عالية من التعاطي المرن الذي لا يحتمل التأرجح، وهكذا تأتي القرارات الأمريكية مدروسة إلى حد بعيد ومنسجمة مع المرحلة الراهنة، ولكن بالطبع هذا لا يعني أنها كانت دائماً قابلة للتطبيق الواقعي، فهي قرارات روعي فيها بالدرجة الأولى أمر واحد، وهو ملائمتها للمصالح الأمريكية . والمصالح الأمريكية المنتشرة في كافة بقاع العالم والبحار والمحيطات ، وحتى الفضاء الخارجي، والقرارات تمس بالمقابل أيضاً مصالح شعوب أخرى، وليس نادراً ما يكون ذلك بالإخلال بالمصالح الرئيسية كالاستقلال السياسي، والتبعية الاقتصادية، أو التدخل العسكري المباشر أو التحريض والدفع على النزاعات والحروب ، وغالبا ما تكتشف الولايات المتحدة أن تدخلها لم يكن حميداً ولم تنجم عنه نتائج إيجابية، ولكن هذا لا يعني أن القرار لم يدرس بدرجة عميقة . لذلك فإننا نعتقد أن الإدعاء بأن " تدخلنا هنا أو هناك كان خطأ " هي ذريعة تجانب صواب الواقع المادي الموضوعي ، الذي يؤكد أن القرارات الأمريكية ليست عشوائية ، والمشاورات تأخذ وقتاً طويلاً، ويجري التمهيد والإعداد لها من قبل مؤسسات عديدة، وبعض من تلك القنوات يطلب منها الإدلاء برأيها، فالقرارات ليست فجائية أو أرتجالية . (1)
أين تكمن أهمية دور الرئيس في القرارات السياسية ..؟
من حيث طبيعة القرارات السياسية ، والجانب العلمي / الفني التخصصي فيها، يستحيل على رئيس الجمهورية في الولايات المتحدة الأمريكية مهما بلغت قدراته العلمية / الثقافية، أن يتخذ القرارات من بنات أفكاره، المدروس والذي جرى تداوله من قبل أخصائيين، وربما في حالات محددة، تطرح عليه خيارات(خياران أو ثلاثة) مع شرح مرجحات كل واحدة ، أو مثبطاتها يختار الرئيس واحدة منها بعد التشاور . وأبرز مثال على هذا النوع من القرارات، ذلك القرار الذي أتخذه الرئيس الأمريكي ليندون جونسون (1965) خلال الحرب الفيتنامية (النيران المتدحرجة / Rolling Thunder) وكان الخيار بين أستخدام الولايات المتحدة للسلاح الذري ، مع قبول تداعياته السياسية والعسكرية، أو الاكتفاء بقصف جمهورية فيتنام الديمقراطية (الشمالية، بالأسلحة التقليدية)، فكان أن أختار الرئيس الخيار الثاني. (2) وتحتل القوة السلطة مكانة واسعة في السياسة الخارجية، ويورد البروفسور ريتشارد نيوستات (R. Newstaat) وهو الذي يشغل كرسي مادة الدولة الامريكية في جامعة كولومبيا يورد ما نصه : " إن السلطة هي إقناع، والإقناع يمكن أن يكون مساومة ". وهذه الاستنتاجات يتوصل إليها كل من يتابع السياسة الخارجية الامريكية وهذا المصدر المهم يؤشر جانب من أليات اتخاذ القرار الامريكي، القائمة على توافق مصادر (قنوات) القرار. (3) الرئيس الأمريكي، مثقفاً أكاديمياً، أو متواضع المستوى، وحتى جاهل، ففي نهاية المطاف، من يحكم ويتخذ القرارات هي المؤسسة، وللرئيس شرف إعلانها والتعبير عنها، ففي مرحلة معينة فيها الحاجة إلى الرئيس المثقف أو الأكاديمي، وفي مرحلة أخرى الحاجة فيها إلى رئيس بمواصفات بوش أو ... ترامب . الرئيس الأمريكي يمثل بالدرجة الأولى مصالح البنوك العملاقة وبيوت المال والشركات العملاقة ،( Group-Konzern) التي تتعامل بكتل نقدية هائلة قد تبلغ أكثر من الدخل القومي لدول ذات سيادة .
ولا يمثل جمعيات خيرية ، ولا أراؤه الشخصية بالمطلق، وهذه مسألة جوهرية لكل من يريد دراسة السياسة الأمريكية، التي تعبر عن مرحلة تمثلها بأختصار مجموعة عوامل داخلية وخارجية. (4) المتتبع الباحث في الشؤون الأمريكية، يحاول التوصل إلى آليات القرار السياسي الأمريكي، ومستعيناً بكم هائل من المصادر (واليوم بأستخدام الحاسوب/ الكومبيوتر)، فيجد نفسه أمام آلية معقدة غاية التعقيد، والقرار الذي سيتخذه سيد الإدارة الأمريكية (السيد الرئيس) هو قرار على الأرجح سيكون بين خيارين متماثلين تقريباً، لجهة التطبيق، فأحدهما مبالغ في السلبية، والآخر مرن وسهل، وقد ينطوي على تنازلات. ولكنه القرار الممكن، والقرارات الصعبة جداً هو قرار المواجهة . ومثل هذه القرارات كانت تواجه الإدارة الأمريكية في سنوات الحرب الباردة، (كان عندي كتاب ضخم يستعرضها تفصيلاً فقدته للأسف) وأعتقد أن القرارات كانت أكثر حكمة منها في يومنا هذا . ومن خلال العديد من الشخصيات التي تولت طبخ القرارات بحكمة ونضج ، بتقديري هو برجنسكي (زبغينو برجنسكي) وهو بولوني الانحدار، والشخصية المهمة وليم كواندت، ولكني أجد أن مستوى الرؤساء الأمريكان يتراجع، كما أنهم ينغمسون في نشاطات تحوم حولها الشبهات في النزاهة، والمولجون بالقرارات الكبيرة، ليسوا بمستوى المواقف، ونلاحظ أن معظم القرارات الخطيرة، اتخذت بتسرع، واستناداً إلى القوة الكبيرة التي تتمتع بها الولايات المتحدة : السياسية والمالية والعسكرية، فقرار الهجوم على أفغانستان لم يكن ليتقبله عاقل، وكذلك الحرب على العراق الذي رفضته أوساط كثيرة ضمن معسكر حلفاء أميركا، والذي تعاني الولايات المتحدة ليومنا هذا عواقب اتخاذ قرارها هذا . ثم لاحظنا أن هناك آفة قد ابتليت بها دوائر القرار، (هي آفة شائعة في العديد من الدول) وهي الاستماع للتقارير المقدمة إليهم، رغم أنها دون المستوى الناضج في تحليل الواقع المادي، والانصات لأراء حلفاءهم (عملائهم) من المتعاونين معهم، وهؤلاء خارجون عن خط الولاء الوطني، وترحلوا إلى جانب معسكر مشغلهم (Operater)، كما يلاحظ أن صناع القرار يلجأون بصفة مستمرة إلى الخيار الذي يعتمد على القوة المالية والمسلحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. بالدوين، هانسون : استراتيجية للغد، القاهرة / 1972
2. الدباغ، د. ضرغام : قضايا الأمن القومي والقرار السياسي. ص38 بغداد / 1986
3. نيوستات، ريتشارد: سلطة الرئيس في الولايات المتحدة، القاهرة 1976
4. بحث، ماذا بين أوربا وأمريكا، المركز العربي / الألماني برلين / 2017
إرسال تعليق