البناء الروحي، برؤية تنويرية

مشاهدات



د. حسين عبد القادر المؤيد   

مفكر وسياسي عراقي مستقل 

 

سادت و ما تزال في مجتمعاتنا، مفاهيم وأفكار نمطية خاطئة في مجال البناء الروحي للإنسان والمجتمع، وقيمِ ومعاييرِ التهذيب والالتزام الديني ، فاختُزِل ذلك كله، في الاهتمام بالعبادة والالتزام بالطقوس الدينية ، حتى تجد أن حياة هذا النوع من الناس، قد تحولت الى مظاهر طقوسية ، يهتمون بها ويمارسونها بحَرْفية وربما بتشدد، وصار السلوك الطقوسي ، هو المعيار في الاتصاف بالفضيلة ، وضعفه أو فقدانه ، هو المعيار في الاتصاف بالرذيلة . وفي مجال البعد الإيماني، تكاد تقتصر محددات هذا البعد ومظاهره، مضافا الى السلوك الطقوسي الذي يتحول الى عادة وحالة روتينية رتيبة ، والى هدف في حد ذاته ، على بعض جوانب الاتصال الروحي بالله عز وجل، كالدعاء والذكر والتوكل الذي عادة ما يكون ممتزجا بمفهوم خاطيء عن التوكل ، أو تطبيق خاطيء له . وتجد هذا النوع من الناس، حريصين في دعوتهم الى الإيمان والتدين، على تكريس هذا النحو من الفهم والممارسة ، في محيطهم الذي يعيشون فيه ويختلطون ، وبينما يبرعون في وعظ الآخرين والتنطع بالمفاهيم الدينية بسعتها المتنوعة والمستبطنة للكثير من القيم بنحو أوسع بكثير من دائرة السلوك الطقوسي ، لكنهم على أرض الواقع لا يكادون يخرجون عن السلوك الطقوسي والقيم التي تصب فيه . 

 

إن هذا الاختزال ، مضافا الى تسببه في إحداث انفصام في الشخصية المؤمنة والمتدينة ، فإنه يرسم صورة مشوّهة عن الإيمان والتدين ، تنعكس سلبا على صورة الدين نفسه ، ويقدّم مفهوما ضيقا وخاطئا للبناء الروحي . باديء ذي بدء ، يجب أن نحدد المفهوم في موضوعة البناء الروحي، والذي قد يذهب بالأذهان الى مفهوم الروح ، وهو مفهوم غامض لم يزِح القرآن الكريم عنه الستار، ( يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) ، ولم يستطع الغنوصيون برأيي ، الوصول الى مفهوم واضح ومحدد للروح ، وغاية ما يعرفه الإنسان عن كنه الروح ، هو أنها شيء لا مادي . ولكن المفهوم الذي يمكن أن يقع تحت الإدراك العقلي والمعطى العلمي، هو مفهوم النفس، فالإنسان مركب من جسم ماديّ تقع عليه الحواس، ويخضع للتحليل العلمي المباشر، ومن جزء لا يخضع للحواس مباشرة ، وإنما تظهر آثاره التي تقع عليها الحواس، وتخضع للتحليل العلمي المباشر، وهذا الجزء هو النفس والأنا الداخلي القائم بالجسد، وهو الذي يستبطن المعاني والمشاعر الوجدانية ، ولا يمكن - من ناحية منهجية - أن نقول عن هذا الجزء بأنه الروح ، نظرا لعدم معرفتنا بمفهوم الروح والحقيقة التي ينطوي عليها ، ومن الواضح أن الحكم على الشيء وتوصيفه ، هو فرع معرفته ، فإذا كان مفهوم الروح غامضا ومجهولا، فلا يمكن القول بأن النفس هي الروح ، لكننا نعلم وبأدوات المعرفة العلمية ، بأن الإنسان مركب من جسد مادي ونفس غير مادية تتجسد في آثارها السلوكية وما يظهر على الجسد، ولا شك في وجود ارتباط وثيق بين الجسم والنفس، لذلك قال الفلاسفة بامتزاج النفس بالجسم . وحين يموت الإنسان لا يتوقف الجزء المادي فيه فقط ، وإنما تتلاشى أيضا المعاني الوجدانية التي كانت قائمة بالجسد ، فالميت كما يفقد الإحساس بالألم مثلا ، يفقد الإحساس بالاكتئاب الذي كان ينبعث من الإحساس بالألم ، والإحساس بالألم إحساس جسماني بينما الإحساس بالاكتئاب هو إحساس وجداني، وبالموت يتوقف كلا الإحساسين . ومثال آخر، إن ارتفاع ضغط الدم، أمر يرتبط بجسم الإنسان، ومعرفة الشخص بارتفاع ضغطه يولد في نفسه شعورا نسميه القلق وهو شعور وجداني قائم في الإنسان مرتبط بالحالة الجسمانية . وكذلك العكس، إذ يؤدي الشعور بالخوف الى ارتفاع وسرعة نبضات القلب . وكذلك الارتباط بين الحزن والبكاء . وأوضح من ذلك ، الارتباط الوثيق بين الإدراك العقلي والشعور الوجداني، فالعقل كما يدرك المعاني المادية ، يدرك كذلك المعاني اللا مادية ، ويؤثر الإدراك العقلي تأثيرا مباشرا على المعاني الوجدانية، فرؤية مشهد عاطفي أو كارثة بشرية ، تنعكس مباشرة على الوجدان وتثير مشاعر معينة في النفس . وهكذا تنشأ علاقة تبادلية بين العلم والإيمان ، فالعلم يجسّد الإدراك العقلي في أعلى درجاته الاحتمالية، وينشأ منه يقين وجداني يستقر في النفس، وتتولد منه مشاعر وجدانية تتصل به. إذن المعاني الوجدانية قائمة في النفس، وهناك علاقة تبادلية بين النفس والجسد ، تقبل الخضوع للتحليل العلمي .

 

وفي ضوء ذلك ، هناك نوعان من البناء لابد منهما لكل إنسان ، بناء جسماني يرتبط بنمو الجسم وصحته والحفاظ عليه ، وبناء نفسي يتصل بصياغة الشخصية الوجدانية للإنسان وتهذيبها . وهكذا يتضح أن استعمال لفظ الروح ، ووصف هذا النوع من البناء بالروحي، ليس دقيقا ، وهو من الأخطاء الشائعة المبنية على ترادف النفس والروح ، ولا يمكن كما تقدم الحكم بالترادف ، لعدم تبلور معنى واضح ومحدد للروح . ولكننا نستعمل هنا تعبير البناء الروحي، لأنه الأقرب الى الفهم العام ، الذي ألِف هذا التعبير، بيد أننا في مطاوي المقال ، نحرص على تكريس المعنى الصحيح علميا . يندفع الإنسان جبلّيا، نحو تحقيق شخصيته الكاملة، وقد يقصّر في الاستجابة لنداء الفطرة، ولكن الشعور بهذا الاندفاع لا يكاد ينكفيء عنه ، ولا يكاد الإنسان ينكفيء عن الاستجابة ولو في حدود محدودة أفقيا وعموديا . إن تحقيق الشخصية الكاملة ، لا يقتصر على السعي في تنمية المعرفة في آفاقها المترامية وحسب، وإنما يجب أن يتحرك باتجاه البناء و التطور ( الروحي ) وذلك عبر ما يلي :-

1- المعرفة العميقة بالوجود و التناغم مع قوانينه .  

هناك شعور وجداني لدى الإنسان بالقلق من المجهول ، ويتولد منه شعور وجداني بعدم السكينة ، يدفعه الى البحث ومحاولة الحصول على معرفة تحقق له السكينة ،  يشدّه ذلك للوصول الى المطلق . ومن هنا فهو روحيا وعقليا ، بحاجة الى المعرفة بالوجود وقوانينه  والتناغم  في حياته مع قوانين الوجود . إن هذه المعرفة ، تخلق في وجدان الإنسان وعقله ، وعيا بالمسؤولية في إسعاد نفسه وسعادة البشرية وعمران الأرض ، والإسهام في إشراق العالم ، الأمر الذي يجعل من وجود هذا الإنسان على الأرض ، طاقة إيجابية على الدوام تشع بالخير وتحول دون الشر . إن هذه المعرفة ، وما ينجم عنها من وعي ، توجِد في الإنسان أفقا واسعا ، يرى من خلاله المجتمع البشري ، وحدة واحدة لا تتجزأ، ويرى الأرض وطنا حقيقيا للجميع ، ويعي بوجوب انخراط الشعوب والأمم في منظومة جامعة تقوم على العلم و العدل والمحبة والخير والسلام ، ويعي بأن عمران الأرض وخدمة البشر، شرف وواجب ، بل طريق لتبلور الذات وتحقيق الشخصية الكاملة . إن من يصل الى هذا المستوى من المعرفة والوعي ، سيتحرر من قيود العنصرية والطائفية بكل أشكالهما . وهكذا يتضح ، أن هذه المعرفة ، بوصفها عنصرا أساسيا في البناء الروحي للإنسان ، قد أضفت على البناء الروحي طابعا إنسانيا يتسق مع فطرة الإنسان وحقيقة الهوية الأصيلة التي يولد حاملا لها وهي الهوية الإنسانية ، التي يجب أن تكون نقطة التلاقي المستمر والدائم بين عالم التكوين وعالم التشريع .

2 - الاهتمام المستمر، بنقاء النفس وتهذيبها، وتصفيتها من الشوائب الجوهرية، كالأنانية والحقد والحسد والتكبر والكذب والاحتيال والانتقام والإيذاء وغير ذلك من الرذائل التي تطفيء النور في الوجدان ، وتحول المرء الى طاقة سلبية ينبعث منها الشر والضرر لنفسه ومجتمعه . في هذه النقطة من البناء الروحي، يجب أن يهتم الإنسان بالاتصاف بفضائل الصدق والوفاء والتواضع وحسن النية وحب الخير للناس والحرص على مساعدتهم قدر الإمكان . إن أي بناء روحي للإنسان ، ينحسر عن هذا النهج ، بل لا يكون أولوية له، هو بناء فاشل بل يضر الإنسان، إذ لا يحول دون تحقيق شخصيته الكاملة فحسب، وإنما يحدث فيه انفصام الشخصية ، ويبقي المنافذ التي تتكون عبرها الطاقة السلبية التي ينبعث منها الشر مفتوحة. وهذا ما يخلق في شخصية المتدين الطقوسي، قابلية التطرف والإرهاب.

3- الربط بين السمو الروحي و الحياة بكل أبعادها .

إن من الأخطاء الجسيمة ، أن يتحول السمو الروحي مفرداتٍ وسلوكياتٍ الى معاني تجريدية بحتة ، تنحصر بالعلاقة مع النفس والعلاقة مع المطلق، فهذا النوع من التعاطي ، يصطدم مع حقائق التكوين والوجود التي تتصل بالإنسان وموقعه على الأرض ودوره في الحياة ، وينعكس سلبا حتى على سيره الطبيعي في العلاقة مع النفس والعلاقة مع المطلق والتي لا يتحقق سيرها الطبيعي، إلا عبر شبكة مترابطة من الحيثيات الكونية والوجودية . وفي ضوء ذلك ، لا يتحقق السمو الروحي إلا بتجسيد قيمه المرتبطة بحيثيات الكون والوجود في الحياة .

 
إن الإنسان الذي يركز على عبادة ربه وأداء طقوسه الدينية و تبنّي مفاهيم ضيقة ذات لبوس ديني، ويعتبر ذلك فقط هو مسلك السمو الروحي الذي يوصله الى السعادة في الدارين، هو إنسان فاشل يتدحرج في مهاوي الانحطاط الروحي . مثل هذا الإنسان ، تتحول عنده الرذائل الى فضائل، فلا يتورع عن بث الكراهية بين الناس، وعن ارتكاب الظلم ، وعن التمييز الديني والطائفي، ويستحل الكذب والاحتيال والنهب، بتبريرات دينية موهومة، فيكون طاقة شريرة في المجتمع . بينما الإنسان الذي يجسد في الحياة قيم السمو الروحي المرتبطة بحيثيات الكون والوجود، ينطلق في فكره وسلوكه من هذه القيم التي تكرّس الكرامة الإنسانية لكل البشر والحق في الحرية للجميع والمسؤولية الأخلاقية والقانونية في العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان ، والعلاقة بين الإنسان والطبيعة. فيكون الخير والعدل والوداد والوئام واحترام الآخر وخدمة البشر وإعمار الأرض، أهدافا رئيسة في حياة الإنسان ومحددات لسلوكه ، ومراقي لسموه الروحي . إن هذا الربط ، من شأنه أن يوجِد في المجتمع نظاما سياسيا واقتصاديا  واجتماعيا ساميا، تكون فيه الديمقراطية الحقيقية على سبيل المثال، بوصفها نموذجا يضمن حرية الإنسان وكرامته وحقوقه ، فضيلة سياسية ، ويكون الإخلال بها هو الرذيلة التي تطيح بالسمو الروحي للفرد والمجتمع ، وتكون العنصرية الإثنية والدينية والطائفية ، من أبشع الرذائل والموبقات التي تكشف عن الانحطاط الروحي لمرتكبيها، ويكون انتهاك حقوق الإنسان، جريمة روحية لا يمكن تبريرها علاوة على كونه جريمة قانونية . بينما يكون العمل على تحقيق الكرامة الإنسانية لكل البشر، وتطبيق حقوق الإنسان وخدمة الناس كل الناس وإسعادهم وإعمار الأرض وإيصال الخير ونشره و كف الأذى والضرر عن الناس جميعا، هو جوهر العمل الصالح الذي يقترن بالإيمان اقترانا طبيعيا ومتسقا . إن الإنسان الحريص على سموه الروحي، ملزم بتجسيد قيم السمو الروحي في حياته في أي موقع يكون فيه ، تلك القيم المترابطة مع حيثيات الكون والوجود،  وليس تلك التي تصنعها المصالح والأهواء و الرؤى الضيقة لا سيما الملتبسة بالمفاهيم الدينية الخاطئة واللابسة لبوسها . إن هذه الرؤية التنويرية للبناء الروحي ، أعتقد أنها تقدّم وصفة متسقة وشمولية مترابطة لهذا البناء ، تحفظ للإيمان جوهره الصافي ومعناه النقي  وهدفه السامي، وتكرّس إنسانية الإنسان وموقعه ودوره في الوجود، وتبلور البوصلة الصحيحة للتدين . وهي علاوة على ذلك، وصفة للإنسان أيّ إنسان مهما كان دينه ومعتقده .


تعليقات

أحدث أقدم