مقامة الأحتقار :

مشاهدات

 

 

صباح الزهيري 


ترى متى يصبح المجتمع حقيرا ؟

مصطلح الحقارة يعني حرفيًا : حالة أن يكون الشخص منبوذًا وهو يدل على الاستصغار , إن الاحتقار والازدراء شيء واحد وهو الاستعلاء والتقليل من قدر الانسان ومن شانة والنيل من كرامته , وهو شعور شخص لشخص اخر أنه لا يساوي شيء امامه إما بسبب الشهرة او المال والقوة والنفوذ الذي يمتلكها , أو لشكله وعرقه ومعتقدة الديني أو لأنه إنسان طيب وصادق له قلب نظيف او متميز أكثر من ألآخرين . من ردود الافعال التي تظهر عند المصابين بصفة الحقارة لغرض إخفاء الفشل والإخفاق : التكبر, هذه الصفة الذميمة في نظر العلم والدين تعتبر من السيئات الخلقية الكبيرة , وتعدّ من الأمراض النفسية الخطيرة , حيث إن الرجال المتكبرين محتقرون في أنظار الناس , معذبون عند الله تعالى, كما قال الإمام الصادق عليه السلام: (الكِبرُ رداءُ الله, فمن نازع الله عز وجل رداءَهُ لم يَزِدهُ الله إلا سَفالاً), إن أساس هذه الصفة الذميمة هو نوع من الحقارة التي يشعر بها المتكبر في ضميره , والذي يؤلمه ويقلقه دائماً, إنه يحاول أن يخفي حقارته الباطنية بالتظاهر بالكبر , وبهذه الطريقة يقنع نفسه , ويخفف من فشله, وقد جاء عن الإمام الصادق أيضا : (ما من رجل تكبّر أو تجبّر إلا لذلةٍ وجدها في نفسه) , وكذلك : (ما من أحد يتيهُ إلا من ذلّة يجدها في نفسه).

 

يقول د. يوسف زيدان في شرح مسهب لكيفية انتشار الحقارة في المجتمعات : يكون الأنسان حقيرا عندما يقتنع في داخل ذاته بنقصه وعجزه , وقلة قيمته ومكانته من الآخرين , فهو إنسان منهزم من الداخل لشعوره بالعجز عما يفعله الآخرون , وعندما يشعر الحاكم الجاهل الحقير انه وصل إلى كرسيه مصادفة , يبدأ الاحتقار فى الانتشار بالبلاد وفى الغوص بأرضها, أذ أن تلك الصدفة التي جاءت به الى السلطة , ترسَّخ عنده الشعور بأنه أقل قيمة من كرسيه, ولكى يتخلص من هذا الشعور المريرالداخلي , يسعى بشكل تلقائى غير واع فى معظم الأحيان , إلى التخلص من إحساسه بالاحتقار الذاتى , من خلال احتقار الآخرين , فيحيط نفسه بالأشخاص الذين يبذلون له من تحقير أنفسهم ما يساعده على التخلص من إحساسه باحتقاره لذاته, وتصاغ هذه العلاقة على هيئة كاذبة يوصف فيها المحيطون بالحاكم بأنهم : أهل الثقة, أصحاب الولاء, جماعة الموالين... إلخ, واذا أضفنا لذلك التهليل الإعلامى الدائم , والإخفاء المتعمد للحقائق , والكذب والتدليس , يتخلص الحاكم من شعوره الدفين بالاحتقار, ويبدأ بأحتقار الذين حوله على اعتبار أنهم خدم مؤبَّدون ومؤيِّدون له , ولا يحتمل الاحتكاك بوجوه جديدة لا تنظر إليه بالانكسار الذى اعتاده من المحيطين به, ثم لا يلبث الاحتقار الذاتى أن يتسلل إلى نفوس تلك الحاشية المحيطة بالحاكم , فيحتاجون إلى دفعه بعيداً عنهم بالطريقة ذاتها التى دفعوا بها الاحتقار الذاتى عن ربهم الأعلى (الرب هنا بالمعنى السياسى والاجتماعى لا الدينى) فيحيطون أنفسهم بجماعات من أهل الثقة والولاء والتذلل الذى يخفف من شعورهم الذاتى العميق و المؤلم بالاحتقار, ومن هنا يتسلسل الأمر ويتسلل إلى الجهاز الحكومى كله, بكل ما فيه من مؤسسات, فيغدو المجتمع كله غارقاً فى البنية الاحتقارية التى يتم فيها التخلص من وطأة الاحتقار بالاحتقار, ومن مرارة الشعور الذاتى بتحقير الآخرين ., وهو الأمر الذى يتجلى فى وقائع يومية مثل: قطع الطرق على الناس بالساعات لمرور الحاكمين بسلام , السخرية العلنية من الجمهور ومن المعارضين , الاستخفاف بعقول الناس عبر أداء إعلامى ساذج , التلويح بأن البلاد مستهدفة ولن ينقذها إلا جماعاتهم وعصاباتهم المسلحة والعسكريون من اتباعهم , لتستولي على المجتمع البنية الاحتقارية التي تنعكس على مجمل الواقع العام السياسي والاجتماعى والثقافي والتربوي وكل قطاعات المجتمع .

 

وعندما تنفجر فى النفوس النزعة الاحتقارية وتصبح هى القاعدة الأساسية التى تحكم العلاقة بين الجماعات فى بلد واحد, فهذا مؤشر على اتجاه هذا البلد نحو السقوط التام والخروج بالكلية من المسار الإنساني , لأن ازدياد هذه النزعة يقود إلى توطين العنف وإلغاء المُحتقر للمحتَقر , ان الشعوب الحقيرة والسخيفة تستحق ما تحصل لها من الأذى والآلام ,عندما تختار وتنتخب اناسا مجرمين ولصوصا فاسدين  ليكونوا رمزا وصوتا لهم . ويُحكى أنه في زمن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز وفي إحدى السنين لم يعثروا على فقير يأخذ الزكاة من بيت مال المسلمين, وذلك لتوفر الاكتفاء لدى جميع مواطني دولته الذين بلا شك شعروا بكرامتهم الشخصية إضافة للشعور بكرامة الوطن, فأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بأن تبذر الجبال بالقمح كي تأكل الطير ولا تجوع في بلاد المسلمين , وهذا تاريخ مسيّل للدموع عندما تسمع وترى الفقر في بلاد العرب التي تكسب مليارات الدولارات من عائدات النفط يوميا, فيشعر المواطن بإهانة شخصية لفقره وحرمانه من خيرات بلاده وبإهانة وطنية وقومية لأنه يدرك أين وكيف تسرق وتزهق هذه الأموال وخصوصا على صفقات السلاح التي لن تستخدم إلا لقمعه هو نفسه, ولهذا لا أستغرب أن يتمنى المواطن العربي في كثير من الحالات أن تُدمر أسلحة حكومة بلاده, وأن تحترق في مواقعها لأنها في نهاية المطاف لن توجّه إلا لصدره لدوس كرامته, مئات المليارات أزهقت لاقتناء طائرات حربية لم تقتل سوى مواطنيها, بل حتى الأسلحة المقاومة للطائرات استخدمت ضد المواطنين .  يقول آرثر شوبنهاور ( الكراهية تنبع من القلب, والاحتقار من العقل, وكلاهما خارج عن إرادتنا) , فنحن في زمن إذا احترمت الناس احتقروك وإذا احتقرت الناس احترموك فأحيانا قد يصبح الاحتقار واجب .

تعليقات

أحدث أقدم