ياسر عبدالعزيز
لقد فهمت روزا باركس معنى الفعل المقاوم ومن ثم طبقته على القواعد المطبقة من قبل حكام الولاية البيض المنحازين لعرقهم والمهمشين لغيرهم من السود والملونين، إذ لم يكن الأمر يتعدى ترك مقعد في حافلة من أجل رجل أبيض، بل كان الأمر يتعلق بالمساواة والعدالة في كل مناحي الحياة، بل ويستخدمون في سبيل تنفيذ ذلك، قوتهم الناعمة، من خلال تدريس وترسيخ تلك المفاهيم في المدارس والإعلام، وقوتهم الخشنة المتمثلة في الشرطة بسلاحها لإرضاخ العامة وإنفاذ هذه المفاهيم، من أجل مصلحة فئة دون النظر إلى مصلحة الآخرين، حتى لو كانوا هم الأكثرية . هذه القوة واجهها السود في ألاباما، بعد موقف روزا، قبل أن ينتشر الفعل المقاوم في أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، واختاروا في ذلك طريق حرب اللاعنف على العموم، واختار آخرون العنف كمعادل للفعل المعتدي على حقوقهم .
يصنف البعض حركة الحقوق المدنية كواحدة من أنجح الحركات المدنية في التاريخ، إذ نجحت في فرض تغييرات جذرية في الدستور الأميركي، وناضلت للوصول إلى ما نجحت فيه أربعة عشر عاما كاملة، قدم المنخرطون فيها تضحيات كبيرة سواء من حريتهم وأمانهم الوظيفي أو حتى في أرواحهم، لكن دعني أقول لك عزيزي القارئ، إن هذا الوصف (أنجح الحركات المدنية في التاريخ) هو خدعة أطلقها أصحاب المصلحة الذين فهموا أن الكبت لن يولد إلا العنف، وأن مساحة مدروسة من الحقوق والحريات قد تطيل عمر حكمهم الجائر، وأن تغير ثوب العبودية هو الحل بعد تزيينه وتجميله، وهم في ذلك ليسوا بدعا، فلهم إرث من الفلاسفة والمفكرين الغربيين، فإمبراطورية الإسكندر المقدوني انطلقت لاستعمار الشرق بتوجيه من الفيلسوف أرسطو، وورثتها الإمبراطورية بتشجيع من الفيلسوف فيرجيل صاحب مقولة (أنت يا روما عليك حكم الشعوب) ، هكذا المنهج الفلسفي المتعالي الذي ما إن يجد الفرصة لإثبات علو عرقة لا يتوانى، والناظر في فلسفة هيراقليطس وأرسطو وأفلاطون سيجد تكريس لمبدأ النخبة الطبقية، ترخي حبالها عند شد "العبيد" لتستمر في الحكم واستغلال الطبقات "الدونة"، فرغم كلام المحدثين من الفلاسفة عن الديمقراطية والحقوق والحريات وتداول السلطة وتقاسم الثروات، مثل توماس هوبز ولوك وسميث ومونتسكيو، إلا أنهم لم يخرجوا عن نهج ميكيافيللي النفعي، والذي يرسخ في النهاية ميراث العبودية، ويبرر استعمار الشعوب. هذه النفعية التي رسختها الرأسمالية لصالح فئة معينة، والتي لا ترى حدود لكسب المال والنفوذ، فاتخذت من عبودية الإنسان وسيلة لجني مزيد من الأرباح والمنافع والنفوذ، لذا فهي ترفض الإسلام، الذي هو بالأساس مبني على العدالة الاجتماعية والاقتصادية وتوزيع الثروات، ويكفي أن تكشف الأرقام التي سألقيها عليك، عزيزي القارئ، مفهوم تلك الفئة التي تتحكم في مصائر العالم، فصناعة الخمور تبغ في العالم 1.6 ترليون دولار سنويا، وتجارة القمار تقريبا 500 مليار دولار، وتجارة الدعارة 500 مليار دولار تقريبا، وهي تجارة سيمنعها الإسلام إذا حكم، والأهم والأخطر أن اللوبي الربوي ستنتهي سطوته من العالم، برأيك هل يسمحون؟!
لم تكن حركة الحقوق المدنية في أميركا الوحيدة ولا الأنجح، لكنها تصور على هذا النحو لأن دونها من حركات تحرر سواء من قبضة فئة حاكمة، أو من قبضة محتل خارجي، تواجه دوما باتهامات استطاع المفكرون والإعلاميون ترسيخ تصور لدى العامة عنها بأنها إرهاب وزعزعة لاستقرار البلاد . حركة المقاومة سواء الداخلية على ظلم الفئة الحاكمة المتحصنة خلف قوتها القانونية والعسكرية، أو حركة المقاومة ضد احتلال ينهب خيرات البلاد ويستعبد العباد بوقة السلاح وفرض الامر الواقع على شعب لا يملك من أسباب القوة ما يدفع العدوان، هي جميعا تندرج تحت الأعمال الاحتجاجية الرافضة لهذا التعدي على الحقوق والجور الذي ترسخه تلك الفئة، لذا فإن المجموعات أو الجماعات او حتى الشعوب التي ترى نفسها تحت وطأة وضع لا ترضى عنه، تقوم بأفعال تصنف تحت تعريف المقاومة، ولو اختلفت الأساليب ، سواء من خلال اللاعنف الذي أسس له أو تبناه غاندي، أو من خلال القوة والتي تتعدد أشكالها وأشهرها حرب الجاريلا، والتي اشتهرت أيام حرب الاستقلال في إسبانيا، وإن كان تاريخ نشأتها يرجع للقرن السادس عشر، ورغم الاختلاف حول نجاعة الأولى فيما تتركه الثانية من آثار أو النظر للثانية على أنها الوسيلة المثلى للانعتاق من جور الفئة الباغية وتحقيق العدالة لما يرى أصحاب هذا الترجيح من أن اللاعنف، إنما هو مساحة تنفيس لا توصل للهدف المنشود، فإن معركة الوعي هي الأهم لكلى الرأيين . إن صناعة حاضنة شعبية للمقاومة أساس لانطلاقها، فما كان مارتن لوثر كنج ليصل لنتائج من حركته المدنية اللاعنفية، إلا من هذا الزخم الذي صنعته روزا باركس، بعد أن انتشر خبر اعتقالها على خلفية رفضها القواعد الجائرة للحكام البيض، ولم يكن ليحقق عبد الكريم الخطابي ما حقق وصولا لاستقلال بلاده، حتى بعد نفيه، إلا بوجود حاضنة شعبية واعية لحجم الظلم الواقع عليها ومدركة للدور الذي يلعبه الخطابي وعمر المختار، وما تقوم به المقاومة في غزة الآن ، ما يعني أن الفعل المقاوم يحتاج فيما يحتاج لوعي الناس وصناعة حاضنة شعبية، وهي معركة لا تقل أهمية عن الفعل المقاوم بل وتسبقه، إذ أن الفعل المقاوم في النهاية هو فعل رافض للظلم وساع لتحقيق العدالة، هذه العدالة التي من أجلها يضحي الفرد والجماعة؛ ومن أجلها خلق الله الأرض بالميزان، وأمر عباده ألا يطغوا في الميزان ويقموا الحكم بالقسط ولا يخسروا الميزان .
إرسال تعليق