لم يكن ما يجري الحديث عنه حاليا من مخطط لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية وليد اللحظة أو نتيجة لأحداث السابع من أكتوبر الماضي . بل هو كما ذكرنا في المقال السابق، قديم قدم الصراع العربي الإسرائيلي ذاته، ومصاحب لمحطاته الرئيسية ولحظات انفجاره الفاصلة، وكان من أقدم هذه المخططات ما تم بحثه عام 1956 اثناء العدوان الثلاثي على مصر وقبل انسحاب إسرائيل من الأراضي المصرية، حين درست الحكومة البريطانية خططا ومشاريع عدة شملت دمج جزء من سيناء، وقطاع غزة، وجزيرتي تيران وصنافير، وجزء من الأردن لإنشاء منطقة عازلة بين مصر وإسرائيل وكان من بين المشروعات المطروحة مشروعا باسم "خطة سيناء"، اقترحتها على الحكومة البريطانية إليزابيث مونوريو، رئيسة قسم الشرق الأوسط في مؤسسة الإيكونومسيت في ديسمبر عام 1956، والتي تحدثنا عنها في المقالات الثلاث السابقة ونستكمل هنا بعضا من تفاصيلها التي تكاد تتكرر في كثير من تفاصيلها مع الخطط والمخططات المطروحة حاليا والتي كان من آخرها ما كشف عنه معهد "ميسجاف" الإسرائيلي لبحوث الأمن القومي وللاستراتيجية الصهيونية قبل أسابيع قليلة من تفاصيل دقيقة للخطة الإسرائيلية المرتقبة لتهجير كافة سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء . وفقا لمخطط "مونوريو" فإن مشروع "قطاع سيناء" سيشمل قطاع غزة بالكامل، وقطاعا عرضه نحو 33 كيلومتر من سيناء ويمتد من البحر المتوسط إلى خليج العقبة، بالإضافة إلى جزيرتي تيران وصنافير عند المدخل الجنوبي لخليج العقبة واللتان مكنتا مصر من التحكم في الممر المائي الدولي إلى خليج العقبة ، الأمر "الذي مكن مصر في الماضي من التجرؤ على عرقلة حرية الملاحة والمرور في الممرات التي تقع ضمن مياهها الإقليمية"، حسب تعبير الخطة، التي كشفتها أوراق الخارجية البريطانية المفرج عنها مؤخرا وعرضتها هيئة الإذاعة البريطانية .
كما اقترحت فكرة إنشاء قناة ثانية بديلة لقناة السويس التي قالت مونوريو إن "حفرها حلم في الخيال الآن". ورغم إشارتها إلى أن تضاريس المنطقة المقترحة جبلية ولا مجال للمقارنة بينها وبين الأراضي المستوية عند برزخ السويس، فإن "إمكانية حفر القناة الثانية تظل قائمة، وقد تخفض السلوك الاحتكاري لقناة السويس" . أما عن إدارة المنطقة الجديدة المقترحة فقالت الخطة أن الإدارة ستكون دولية، وتمارسها إحدى وكالات الأمم المتحدة المتخصصة، وتقدم تقريرا سنويا إلى الجمعية العامة للمنظمة. وللتأمين، اقترحت الخطة تشكيل قوة مدنية تتمتع بمساندة الأمم المتحدة، أو بضمانات واسعة لممارسة السلطة في المنطقة. ولا تملك هذه القوة سلاحا إلا بما يحقق أهدافا شرطية أو جباية الإيرادات . أما عن التمويل فاقترحت الخطة أن تعطى إحدى وكالات الأمم المتحدة المختارة للإدارة قروضا يقدمها الدائنون الأساسيون الذين سوف يستفيدون من "قطاع سيناء"، لحين تشغيل المنطقة وتمكنها من الاعتماد على نفسها ماليا. وتشارك في التمويل شركات النفط الأوروبية والآسيوية المستفيدة. وتوقعت الخطة أن تكفي الرسوم، التي تدفعها الشركات، لتمويل احتياجات الإدارة والتأمين . أرسلت مونوريو خطتها إلى والتر مومكتون، وزير شؤون مجلس الوزراء في الحكومة البريطانية، الذي أحالها إلى إدارة شؤون منطقة الشام في بوزارة الخارجية التي ردت بقولها إنها تدرس بالفعل اقتراحا بإنشاء "قطاع محايد عبر شبه جزيرة سيناء"، وإنها أعدت ورقة بشأنه وأرسلتها إلى لجنة شؤون الشرق الأوسط بالخارجية، لكنها أشارت إلى بعض الصعوبات، التي ينطوي عليها إنشاء مثل هذا القطاع، تتجاوز قيمته كعازل بين إسرائيل ومصر، وهو الأمر الذي اختلف معه ويليام ديفيد أورمسبي ، وزير شؤون الشرق الأوسط في الخارجية البريطانية الذي تحمس للخطة ورأى أنها واضحة وفوائدها السياسية كبيرة .
حظيت الخطة بنقاشات كبيرة واهتمام أكبر في دوائر الحكومة البريطانية وإداراتها المختصة ما بين مؤيد ومتحفظ على بعض النقاط، فعلى سبيل المثال رأى السير مومكتون وزير شؤون مجلس الوزراء أن جزء من القطاع المقترح يجب أن يقتطع من إسرائيل، رغم اعترافه أن "هذا سيجعل من الصعب للغاية إقناع إسرائيل بقبول الخطة، وذلك على العكس من اقتراح مونوريو التي قالت إن القطاع المقترح يجب أن يقتطع فقط من سيناء المصرية، لأنه "من المستحيل اقتطاع جزء من إسرائيل"، وقالت إنه "في الوقت الحالي، يمكن جعل إسرائيل تتنازل عن أراض استولت عليها، وجعل مصر تتنازل عن أراض خسرتها إلى منتصر" مشيرة إلى أن "اقتطاع جزء من الأراضي المصرية التي استولت عليها إسرائيل يمكن أن يقدم على أنه أمر مفروض على إسرائيل، ومكسب لمصر". كما أبدى الوزير البريطاني أيضا تحفظا على "تقليل مونوريو من قدر التأمين الذي يحتاجه القطاع"، وقال إن "تشكيل قوة مدنية لن يكون إلى كافيا"، وأن هناك "ضرورة أساسية" لتشكيل "قوة عسكرية تكفي لمنع إسرائيل ومصر من خوض مغامرات عسكرية، على أن تتألف هذه القوز من أشخاص محايدين، لا عرب ولا يهودا"، كما اعترض أيضا على اقتراح مونوريو إسناد مهمة إدارة القطاع إلى الدول التي تتولى تمويل الخطة، متوقعا ألا يقبل العرب ولا إسرائيل ولا الأمم المتحدة ذلك. واقترح أن يكون القطاع "بشكل ما أرضا تتبع للأمم المتحدة"، على أن يشكل "مجلس أوصياء" يتولى مهمة "تعيين لجنة من الدول الأعضاء الأصغر في الأمم المتحدة لإدارته"، وقال إن الهدف من هذه الصيغة هو "تجنب المخاطرة بالمشاركة الروسية في الإدارة"، وهو ما يتشابه إلى حد ما مع بعض الرؤى المتداولة حاليا لإدارة قطاع غزة بعد انتهاء العلمية العسكرية الجارية . وفي دفاعها عن خطتها وضغطها لسرعة تنفيذها، عبرت مونوريو عن اعتقادها بأن "الفرصة ربما لا تتوفر مرة أخرى بدون حدوث انفجار آخر، ربما يكون أكبر بدرجة لا يمكن التعامل معه بالطريقة الممكنة الآن"، وهو الانفجار الذي حدث بالفعل وبدرجة أكبر في حرب عام 1967 والتي مثلت محطة تالية مواتية ومثالية لتنفيذ مخطط تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وإطلاق بعض المشاريع المعنية بذلك ومن بينها المشروع الذي طرحه ريتشارد وود، عضو البرلمان البريطاني في العام التالي للحرب وأسماه "خطة لإدارة شبه جزيرة سيناء وتنميتها"، وهذا موضوع المقال المقبل
إرسال تعليق