فاطمة المزروعي
يطيب للبعض عند الحديث عن التاريخ، أو بصفة خاصة عند تناول موضوع التراث، أن يكون حديثه متعالياً، معتقداً أن هذا التاريخ وكل ما يحمله من خبرات وتجارب، لا فائدة أو لا طائل من ورائه، وهناك من يرى أن التاريخ أو الاهتمام بالتراث، هو تجديف ضد التطور، وضد الحداثة والرقي، وهذه الأصوات نشهدها ونسمعها يومياً، وهي لا تكاد تنقطع أو تصمت، وحول هذه النقطة تحديداً، هناك مقالات تكتب بشكل مستمر.. لا تعد مثل هذه الآراء ذات منطقية علمية، ولا تحمل في جوانبها مستنداً وأرضية صلبة عند النقاش والحوار، أصحاب مثل هذا الرأي يرفضون الواقع، يرفضون التصديق بأن رعاية التراث والإعلاء من التاريخ بصفة عامة، لا يتعارض ولا يسبب أي نكوص أو تراجع عن خطط التنمية، ولا يبطئ مسيرة الرقي الحضاري لأي دولة، أو لأي مجتمع..
والأمثلة عديدة ومتنوعة، ولكنني لن أذهب بعيداً، حيث أتوقف عند نموذج مشرق وخلاب بين إدماج التراث مع الحداثة، في صهر الماضي مع الحاضر والمستقبل، في التطور والتقدم، مع المحافظة على القديم الموروث، إنها دولة الإمارات، التي ستشاهد في مختلف أرجائها المباني الحديثة، وفي اللحظة نفسها القديمة، وستشاهد السفن والقوارب واليخوت الحديثة منتشرة في الموانئ وعرض البحر، وأيضاً ستشاهد السفن الخشبية القديمة التي تبحر بأشرعتها البيضاء الكبيرة في جمال أخاذ مبهر، وأنت تشاهدها تبحر بكل نعومة وانسيابية، جنباً إلى جنب مع كل هذه الثورة التطورية التي نعيشها . يمكنك التجول والتسوق في أسواق يملأها عبق الماضي والتاريخ، بكل ما تعني الكلمة، أسواق تراثية تبيع سلعاً متنوعة، لتذكر بالأيام الماضية التي عاشها الآباء والأجداد، وفي اللحظة نفسها، ستجد أكثر وأكبر مراكز التسوق تميزاً وتطوراً على مستوى العالم، ستجد مطاعم متخصصة في تقديم مختلف الطبخات التي كانت سائدة في أزمان ماضية، وفي اللحظة نفسها، تنتشر مختلف المطاعم من مختلف المطابخ العالمية، هذا التمازج بين الماضي والحاضر، هو الوقود الذي قاد نحو مستقبل مشرق، وهو لبنة من لبنات النجاح الذي تحقق لبلادنا الحبيبة، لأن الرؤية كانت واضحة منذ بداية التأسيس، فهذا هو الوالد الراحل المؤسس، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ومنذ وقت مبكر جداً من عمر بلادنا، وتحديداً في عام 1976 م، وخلال اجتماعه، رحمه الله، بأعضاء لجنة تراث وتاريخ الدولة، قال: «إن التاريخ سلسلة متصلة من الأحداث، وما الحاضر إلا امتداد للماضي، ومن لا يعرف ماضيه، لا يستطيع أن يعيش حاضره ومستقبله.
فمن الماضي نتعلم ونكتسب الخبرة، ونستفيد من الدروس والنتائج، فنأخذ الأفضل وما يناسب حاجاتنا الحاضرة، ونتجنب الأخطاء التي وقع فيها الآباء والأجداد». بمثل هذه الرؤية الواضحة نحو الماضي ونحو التاريخ، سارت بلادنا، بمثل هذا الفهم العميق لوظيفة التراث، تميزت بلادنا وارتقت، بل إنها اختصرت على نفسها الكثير من التجارب الفاشلة أو غير الناجحة التي مرت بها الأمم والمجتمعات في أزمنة غابرة.. نجحت وتفوقت الإمارات، لأنها تستند على تجارب ماضية وخبرات ماضية، فتجنبت الأخطاء، ودعمت كل ما من شأنه أن يوجه ويوقد نحو النجاح، ويحقق التميز.. هذه وظيفة التراث وما يختزله من خبرات وثقافة ومفاهيم ومعارف لا تعد ولا تحصى، جميعها بمثابة كنوز معرفية وحياتية، الجميع في أمسّ الحاجة لها، التراث يمنحنا ضوءاً نحو المستقبل، ينير الطريق، ويوضح المعالم بشكل دقيق.
إرسال تعليق