سحر النصراوي
لمْ يَكُن 14 جانفي 2011 صُدفةً أو مُؤامرةً حيكت بأصابعَ خارجيّة كما صارَ يُتداولُ اليوم في بعض المنابر العربيّة و حتّى المحلّيّة .
هذا التّاريخُ الذي انفَجرت فيه شوارعُ تونس بشعارات أُطلقتْ من حناجرَ صادقة , هذا التّاريخُ الذي قرّرَ فيه الشّعب التّونسي العظيم تغييرَ مصيرِهِ , كانَ نتاجًا لحقبةٍ طويلةٍ من القمع امتدّت مُنذُ من 25 جويلية 1957 تاريخ تنصيب أوّل رئيس لتونس الحبيب بورقيبة والذي عزَلهُ الزّين العابدين بن علي بالانقلاب عليه و تولّي الرئاسة في 7 نوفمبر 1987 . رئيسان مرّا بتاريخ الجمهوريّة التّونسيّة خلال اربعة وخمسين سنةً , الأوّل ساوَمَ البلاد بنضاله ليعتبرَها مُلكيّةً خالصةً له والثّاني سَطا عليه وحَكَمها بنظامٍ قمعيٍّ بوليسي يظلُّ من بين أسوأ الأنظمة في تاريخ الوطن العربي . المُحصّلة كانت إقصاءًا وقمعًا وقصاصُا من كُلّ أحزاب اليسار التّونسي هذا اليسارُ الذي واجه بكلّ فصائله وتوجّهاته الفكريّة والأيديولوجية الدّولة في السّبعينيات وانكسر في الأزمة النقابيّة سنة 1978 . ولعلّ هذه الأزمة هي ما كوّنت لديه قناعةً أن تغييرَالنّظام من الخارج ليس بمستطاعه ولذلك غيّر التكتيك السّياسي واتّخذ سبيل التسرّب إلى مفاصل الإدارة، فلم يمر عقد الثمانينيات حتّى كان اليسار هو المُتحكّم الفعلي في التّعليم وإدارة التّعليم بكل مراحله والثقافة ومواقع نفوذ أخرى كثيرة منها الإعلام . واتخذ النقابة درعًا للّتفاوض من موقع فعّال يرفعُ النّسق الاحتجاجي ويخفضُه في كلّ المحطّات السّياسية التي مرّ بها البلد كما مكّن النّقابيّين من بعض المكاسب السّياسية . بالتّوازي مع الأحزاب اليَساريّة كانَت حركةُ النّهضة والتي بدأت بالتّطوّر والصّعود منذُ أوائل السّبعينات بالظّهورهي الأخرى في المشهد السّياسي و تحوّلت من حركة دَعَويّة إلى خصمٍ سياسيّ جديد يُنافسُ على السّلطة و كُرسيّ الحُكم .
وبدأت الحركةُ في الانتشار خاصّةً بصفوف طُلاّب المعاهد الثّانوية والجامعات بدعمٍ من السّلطة الحاكمة لضرب اليسار الذي كان مُسيطرًا على السّاحة والذي كان يتبنّى المطالب الاجتماعيّة للشّعب إلى أن تم تأسيس حركة “الاتجاه الإسلامي” كجناح طلابي لـ”الجماعة الإسلامية”. وفي جوان 1981، أعلنت الجماعة الإسلاميّة وجودها العلني في مؤتمر صحفي بمكتب مورو . شهدت الحَركةُ صُعودَها في مُنتصف الثّمانينات وتنامى الصّدامُ مع السّلطة وفي سنة 1987 رحّبت الحركة بالإطاحة بالرّئيس بورقيبة ، فيما قام النّظام الجديد منذُ الأشهر الأولى بالإفراج على أغلب أعضاء الحركة المعتقلين . في 7 نوفمبر 1988 كانت الحركة من الممضين على وثيقة الميثاق الوطني التي دعى إليها الرئيس بن علي كقاعدة لتنظيم العمل السياسي في البلاد . لكنّ مرحلة الوفاق لم تَطُل إذ سُرعانَ ما تحوّلت هذه الحركة إلى خصمٍ سياسيّ مُنافس ولعلّ الانتخابات التّشريعيّة التي جَرتْ في 2 أفريل 1989 زيادة على مجموع أعمال العُنف التي تورّطت فيها الحركة بدعمٍ من إيران كانَ القَطرةَ التي أفاضتْ كأس الرّئيس زين عابدين بن علي . لكن ولأنّ الفكرة اليساريّة ، ارتبطت نظريًّا بالنّضال من أجل الخلاص من الظّلم الاقتصادي والاستبداد السّياسي، فقد واصلَ اليسارُ التّونسي تحرُّكهُ من خلال النّقابات والمُناضلين المُستقلّين والاتّحادات الطّلاّبيّة واستمرّت المعركةُ حتّى 14 جانفي تاريخ انتصار الشّعب التّونسي على القهر وكسر قُيود القمع ولعلّ أكبرَ دليل على ذلك كانَ الدّعم الذي قدّمتهُ الاتّحادات الجهويّة للشّغل والاتحاد العام التّونسي للشّغل لدعم هذا الحراك الذي كانَ ردّة فعلٍ مُتأخّرة على نصف قرن من القمع .
لكنّ هذه الفكرة أيضًا تباينتْ واقعيًّا ليس في فهم الواقع وتحليله، ولكن أيضا في التّعامل معه , و السّنوات التي تلت 14 جانفي 2011 كانتْ خيرَ دليل . ففي الوقت الذي تمكّنتْ فيه حركةُ النّهضة من الوصول إلى السّلطة بشتّى الأساليب المشروعة و الغير مشروعة إلى أن تمكّنت تمامًا من الحُصول عليها و التّمكّن من مفاصل الدّولة , ظَلّت هذه الأحزاب تلوكُ شعاراتٍ باتَ أغلَبُها غيرَ صالحٍ و لا مُواكب للأزمة التي تفاقَمت بتفاقُم أطماع حركة النّهضة وكُلّ الأحزاب السّياسيّة التي انبَثقتْ عن حزب التّجمّع الدّستوري الدّيمقراطي بعدَ حلّه . 14 جانفي 2011 تاريخٌ عظيمٌ في عُمر القُطر التّونسي ولا أحدَ يستطيعُ التّشكيك في صدقه ولا صدق من خَرجوا فيه إلى الشّوارع وقرّروا أنّ لكُلّ ظالمٍ نهاية , لكنّ الفَتيل الحقيقيّ الذي أشعلَ هذه الثّورة كانَ 17 ديسمبر 2010 وكُلّ الانتفاضات والتحرّكات التّلقائيّة التي سبقت تاريخ 14 جانفي 2011 هيّأت لهذا اليوم العظيم . لكنّ ما حَدثَ منذُ ذلك التّاريخ والالتفاف على الثّورة وأحلام هذا الشّعب لا يجعلُهُ تاريخًا غير ذي أهمّيّة كما صارَ مُتداولاً اليوم . بل هوَ دليلٌ على أنّ 14 جانفي 2011 كانَ يجبُ أن يكونَ تاريخ اندلاع ثورة حقيقيّة مُنظّمة , يُنظّرُ لها ويُساهمُ المُفكّرون في وضع أسُسٍ حقيقيّة لها , أسَسٌ اجتماعيّة , اقتصاديّة واجتماعيّة تطرحُ حُلولا ذاتَ جدوى , هذه الثّورة كانَ يجبُ أن تُنتجَ زعامات وطنيّة جديدة , تقدّسُ هذا الوَطن وتذودُ عنه . بدَلَ النّواح على خسارَتنا في هذا الوَطن , لنعقد العَزمَ على مُقاطعة الانتهازيين الذينَ يقبضون ثمنَ نضالهم , لنُقاطع وُكلاء شُراة وَطننا ولنُعد من الذّاكرة إعادة بناء علاقتنا بهذه الأرض وبتُرابها , الذي لم نطلْ منه حتّى الآن سوى مقابر لأحلامنا . ليسَ لأنّهُ لا يصلُحُ لغيرِ ذلك , بل لأنّنا تخلّينا عنهُ .
إرسال تعليق