مصطفى الزهيري
كل تعويذات النوم والدعاء والقرآن وورق الغار تحت وسادتي لم تجلب لي النوم , مادام طيفك يدور في مخيلتي , ويقلقني ,وانا الوحيد الذي لايحتاج الى ذاكرة , فانت ذاكرتي . يقولون أن الأرق نوع من الإمساك العصبي , لا يمكن تفريغ أحشائك العصبية من ذكرياتها المؤذية مهما حاولت , ولا يوجد اختبار محدد لتشخيص الأرق , فهو صعوبة إما في الدخول في النوم أو النوم المتواصل لساعات كافية, وقدعجبت للجواهري حين يقول ((مرحبا : يا أيها الأرقُ , فُرِشتْ أُنساً لكَ الحَدَقُ , لكَ من عينيَّ منطلقٌ , إذ عُيونُ الناس تنطبِق , لكَ زادٌ عنديَ القلقُ , واليراعُ النِّضوُ , والورقُ ,ورؤىً في حانةِ القدَرِ , عُتّقتْ خمراً لمعتصرِ)) وهناك من يكون أرقه نعمه .
كلنا قد قرأ أنه لأعمال كافكا طبيعة شبه كابوسية , وهي أعمال سريالية مشبعة بأجواء العزلة والأرق , حتى إن معرفتنا بأمر معاناته مع الأرق, وتدوينه معظم أعماله ليلا, وهوسه بالنوم واليقظة , لن تشكل لنا مفاجأة تذكر , كيف استفاد كافكا من الأرق في إبداعه ؟ أقر كافكا نفسه بأن الكتابة في حالة الحرمان من النوم هذه , تسمح بالوصول إلى أفكار ليست متاحة في الحالات الأخرى , فقال عن هذه التجربة : (( يا للسهولة التي يمكن لكل شي أن يقال بها , كأنها نار عظيمة أعدت للمخابئ التي تخرج منها أكثر الأفكار غرابة قبل أن تعود إلى الاختفاء فيها ثانية)) , أما عن دوره في هذه العملية, فقال : ((كل ما أملكه هو قوى معينة, تستحيل أدبا, على عمق لا يمكن بلوغه في الظروف العادية)) .
كتبت الهام المجيد تصف أرقها : (( ومن صراحة البعد إلى مراوغة الوعد , ومن يد الليل الطُولَى إلى كتف النهار الضياع , ومن عين النوافذ السهر إلى وجه التعب الذبول , ومن أنيق الخيال الكذب إلى دميم الواقع الرضا , ومن بياض الندم النصوح إلى رَجعْ التمنى الضلال , ومن غَطرسة الشوق العناد إلى صفع السكوت المميت)) , إن الأرق وعي مدوخ قادر على تحويل الفردوس إلى غرفة تعذيب وأنه شكل البطولة الوحيد الذي يتناسب مع الفراش كما تقول إيميل سيوران , في حين يصرخ هلال الفارع وهو مسهدا : ((أكلما جف عن أهدابك الأرق .. أمطرتها أرقاً تسخو به الحدق ؟ مجاهرا بالأسى تسري وتتركني .. وإنني بالذي جاهرتَ أحترقُ)) .
ومن خلال تجربتي مع الأرق وجدتُ أنّ السّهر مع الكتب من أكبر الغنائم لمقاومة القلق المصاحب للأرق , وان السهر جميل حين تختاره , لكنه مؤلم حين يختارك كما يقول جبران خليل جبران , ويعترف انيس منصور ((انا مواطن في دولة الأرق)) , ولمحاربة صعوبات النوم تنصح مديرة عيادة صعوبات النوم بمدينة نورنبرغ الألمانية كنيغينيا ريشتر, بالبقاء لمدة ساعة على الأقل في الهواء الطلق قبل الساعة الرابعة عصراً, نظراً لأن ضوء النهار يتمتع بتأثير إيجابي على هرمون الميلاتونين الذي يتحكم في إيقاع النهار والليل بالجسم , واذا لم يفد ذلك فينبغي حينئذ ألا يظل الفرد مستيقظاً في الفراش , ولكن عليه أن ينهض ويفعل شيئاً مملاً للغاية , كقراءة دليل الهاتف مثلاً , إلى أن يغلبه النعاس وذلك كي يصرف ذهنه عن الأشياء التي تجول في خاطره وتسلب النوم من عينيه .
تقول غادة السمان في وصفها للأرق : (( وأنا أتمزق كحيوان خرافي له رأسان كل رأس يتجه إلى ناحية معاكسة للآخر , أيها الأرق دع المدينة في رأسي تهدأ , دعني أنسَ )) , وعلى نسق وصفها كانت العرب قد اشتكت من الأرق فمنهم من أستنجد بمحبوبه, وأستعداه على وحشة الليل ومضاضة الأرق, كقول الأبيوردي :
(( أَأُمَيْمَ إنْ خَفِيَتْ عليك صبابتي .... فسَلي ظلامَ الليل كيف أكون
واستخبري عني النجومَ فقد رأت .... سَهري وأرْوقة الغياهب جُون
ولئن أذلتُ مصونَ دمعي في الهوى ....فعلى البكاءِ يُعوِّلُ المحزون)).
وهذا ابن الأحنف يجيد شكوى الليل الطويل, والسهاد المملول, فمن ذلك قوله :
(( نام من أهدى ليَ الأرقا .... مُستريحًا سامني قلقا
لو يبيت الناس كلهمُ .... بسهادي بيَّض الحدقا
أنا لم أرزق مودتكم .... إنما للعبد ما رُزِقا
كان لي قلب أعيش به ....فاصطلى بالحب فاحترقا)) .
إرسال تعليق