محمود خالد المسافر
كثرت في السنوات الفائتة بعض العادات والممارسات الجديدة التي ليست لها علاقة بأي مذهب من مذاهب ديننا الحنيف. فكل مذاهبنا انما هي مدارس في التفسير، متفقون أصحابها على النص ومختلفون في التفسير والاجتهاد ، وما ظهر على نحو شاذ في اختلاف في النصوص في القرن الثالث الهجري وما بعده انما هو انحراف عن أصول تلك المدارس . وكما أن التطورات التي شهدتها الدولة المدنية في العهد الاسلامي الاول والعهد الذي تلاه تطلبت الكثير من التحديث في تفسير الظواهر الحديثة والاجتهاد على وفق رؤية إسلامية ملتزمة بما جاء في النصوص والاصول وتجتهد بمنهجية في التفسير والفروع ، فإن ذلك يسري أيضا على كل العهود التي لحقت العهدين الاول والثاني . ولا بد من الإشارة إلى ان جمود المذاهب او المدارس الفقهية والتفسيرية في قالب محدود يؤدي ، اما، إلى انحراف قسري تحت وطأة الحاجة إلى التغيير وتلبية متطلبات العصر، او الى الموت السريري لبعض هذه المدارس ، أو كلها، بعد أن تبتعد منابعها عن الواقع بعدا زمنيا طويلا . ولا اريد ان اخوض في فاعلية وجدية المدارس والمعاهد والكليات والجامعات الإسلامية في مواجهة هذه الخصوصية القدرية لكل المدارس الفكرية، دينية كانت أو فلسفية أو غيرها، ولا اريد كذلك أن افصّل الأسباب التي دفعت اغلب المدارس والمعاهد الدينية لتكون عونا للسلطة على الدين ! على مر العصور المنصرمة منذ انتهاء عهد الراشدين وإلى يومنا هذا، فهذا أمر طويل يتطلب الكثير من الدراسة واستنفار المثقفين والمخلصين للدين والمجتمع من أجل مناقشة تفصيلاته بالكثير من الصراحة والشجاعة . ويتطلب ذلك أيضا ألا ينأى علماء الشريعة بأنفسهم خارج إطار عملية اعادة التقييم الموضوعي لما سبق، وألا يكونوا في طرف المدافع على نحو شخصي تجعلهم خصما لعملية التحديث في الفروع فيساعدوا تلقائيا في الانحراف عن الأصول من حيث لا يعلمون . فعلماء الشريعة يمكن أن يكونوا عماد التطور في الفكر الديني الواقعي لو أرادوا . ولا اقصد هنا ابدا ما يسمون برجال الدين من كل المدارس والمذاهب الإسلامية فهؤلاء نتاج تطور عملية استخدام السياسة للدين في السيطرة على عقول الرعية ومقدراتهم . ولذلك لا نستغرب ابدا عندما نقرأ ونسمع أن بريطانيا العظمى وعاصمتها لندن كانت دائما مركزا لكل "رجال الدين" أو ممتهني الدين من السياسيين . فترى فيها مركزا للخوئي ومركزا للحكيم ومركزا للسيستاني كما ترى الذي يختلف معهم جميعا من أمثال ياسر الحبيب.
وكانت لندن دائما ملجأ لكل الهاربين من انظمة الدول العربية والمسلمة من التيارات الاصولية المتشددة من كل الطوائف الإسلامية. فترى المساجد في المدن البريطانية تتوزع بين التيارات السلفية المتشددة والصوفية المترهلة والشيرازية والاخوانية وغيرها كثير . كلهم تجمعهم مظلة واحدة لينطلقوا منها إلى بلدانهم الأصلية فتزيد الفرقة والتجهيل والهمجية. ولذلك لم نستغرب مطلقا عندما أفتى أحد مراجع الحوزة في النجف (السيستاني) بمهادنة المحتل الأميركي مخالفا لسلوك الحوزة ذاتها في عام 1913 عندما افتت بمقاتلة المحتل الانجليزي مخالفة مرجعية الجزيرة العربية (الحسين) الذي وقف مع المحتل البريطاني للتخلص من سلطة العثمانيين. ولم نستغرب كذلك من اتكاء المحتل الأميركي على الحزب الإسلامي (الجناح السياسي للاخوان المسلمين العراقيين، ومقرهم الاساس في لندن) ليمثلوا المحافظات التي انتفظت أول الأمر على الاحتلال من أجل أن يسحبوا البساط شرعيا وقانونيا من هذه المحافظات، وليكون الحزب الإسلامي ممثلا لهذه المحافظات أمام المحتل وعونا للاحتلال وكما فعل السيستاني ووكلاؤه. ولم نستغرب أن تضم التشكيلة العميلة الأولى التي شكلت العملية السياسية، مجموعة متناقضة من تيارات الإسلام السياسي مثل الصفوي الشيعي عبدالعزيز الحكيم والسلفي السني محمود المشهداني ومجموعة تمثل الحزب الاسلامي وأخرى تمثل حزب الدعوة (الفرع الشيعي للاخوان المسلمين)، وغيرهم من ممثلي الفروع الصغيرة في الإسلام السياسي الذي تبرعم بعد الاحتلال الأميركي للعراق. كل هؤلاء من مرجعيات دينية واحزاب الاسلام السياسي وتشكيلات حزبية جديدة وميليشيات مسلحة لديهم هدف واحد هو نهب الثروة في العراق. كل هؤلاء وبوسائل غير متساوية من حيث التأثير حاولوا بكل ما أوتوا من قوة من أجل إجراء عملية استئصال الفكر الديني الصحيح (المعتدل) الذي كان سائدا في العراق وفي غيره قبل احتلاله. واعطيكم مثالا بسيطا يمكن تعميمه بسهولة على كل القوى آنفة الذكر وهو الحزب الاسلامي وسلوك اعضائه الذين تحمسوا كثيرا لطلبات الأحزاب الكردية العراقية في إقامة الفدرالية في العراق، وتحمسوا كثيرا مع متطلبات الأحزاب الصفوية إلى اصدار قانون اجتثاث البعث وحل الجيش والقوى الامنية ظنا خبيثا منهم أنهم بموافقتهم على الفدرالية فإنهم سيحظون وبرعاية أميركية بقطعتهم من العراق فيما يسمونه بالاقليم السني المفترض، وبموافقتهم لسياسة اجتثاث البعث فإنهم سيحضون باغلب الوظائف والمراكز التي سيخسرها البعثيون المشمولون بالاجتثاث لانهم وكما هم الآخرين من أبناء جلدتهم السياسية كذبوا الكذبة ثم صدقوها، وهي أن العراق كان قبل الاحتلال يقوده المكون السني وان اغلب الوظائف المهمة كان يقوم بها أبناء ذلك المكون . ولكنهم اصطدموا بالواقع من جهة، وبنية حلفائهم اللدودين من جهة أخرى . إذ يقول الواقع أن العراق كان يقوده العراقيون الأكفاء من أي مذهب كانوا أو ملة. وان حدث خلل هنا وهناك فانه يبقى استثناء. وتفاجأوا أيضا بنية حلفائهم من الصفويين في الاستحواذ بكل شيء واهمه الوظائف الشاغرة نتيجة تطبيق جريمة اجتثاث البعث.
وهكذا انطبق المثل العراقي على الاخوان المسلمين "لا حضت برجيلها ولا خذت سيد علي". فخسر الإخوان ما كان لديهم في الشارع من مؤيدين واصبحوا بلا أية قاعدة شعبية. ولا زلت أذكر عندما أطاحت وزارة الخارجية بعدد مهم من الموظفين (اظن كانوا أكثر من ستين موظفا دبلوماسيا واداريا) بعد ما يقرب من السنتين من الاحتلال، ولم يكونوا مشمولين بالاجتثاث، فسألت هوشيار زيباري الذي كان وزيرا للخارجية في وقتها، وكنت أنا قائما بأعمال سفارة جمهورية العراق في ماليزيا، عن أسباب إبعاد هؤلاء عن وزارة الخارجية، فقال ان ذلك بسبب شكوى امين عام الحزب الإسلامي محسن عبد الحميد الذي طالب بأبعاد البعثيين من الخارجية واستبدالهم بأعضاء الحزب الاسلامي، لانه وعلى حد قوله إن هؤلاء البعثيين في وزارة الخارجية يشغلون مواقع "السنة" في الوزارة. وأما الشاهد على أسباب مساندتهم للأحزاب الكردية في مطلب الفدرالية فهو مطالبتهم بما يسمى بالاقليم السني منذ اليوم الأول لتأسيس العملية السياسية الاستخبارية في العراق والى حاضرنا اليوم . وعندما واجه هؤلاء المتطفلون في السياسة والدين رفضا مجتمعيا عراقيا عاما، تمثل في الصفحة الأولى من المقاومة العراقية البطلة ثم صفحة التظاهرات والاحتجاجات التي بدأت مباشرة بعد خروج قوات الاحتلال من المدن العراقية في نهاية عام 2011 وتمركزها في معسكرات محددة في العراق، ثم صفحة الانتفاضة العارمة الكبيرة في عام 2014 التي انطلقت من محافظة الانبار وصولا إلى نينوى ومرورا بصلاح الدين لتنتهي بمؤامرة أمريكية ايرانية بفتح الأبواب لتنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي (داعش) ليستبيح الموصل ويفشل الانتفاضة وثورة عشائر العراق مقابل نصف مليار دولار تركها لهم نوري المالكي في خزائن فرع البنك المركزي في الموصل، انتهى دور الحزب الإسلامي العراق بوصفه شريك في العملية السياسية، وهنا كان الجو ملائما لخروج براعم سياسية صغيرة تتقاسم الدور (السني) في العملية السياسية. ثم بدأت صفحة اجتثاث جديدة مارستها السلطة مدعومة بأحزاب الاسلام السياسي وكل الميليشيات بعد أن أفتى لهم السيستاني بتأسيس ميليشيا الحشد الشعبي لمقاتلة داعش، وكان هذا ظاهر الفتوى، أما باطنها فكان من أجل سرقة أموال العراقيين وثرواتهم من أجل تقاسمها مع إيران التي حاصرتها القوى الغربية بموجب قرارات مجلس الأمن اثر تطوير برنامجها النووي. وعلى الرغم من الاحباط الشديد الذي أصاب أبناء المحافظات المنتفظة الخمسة (الانبار وصلاح الدين والتاميم وديالى ونينوى) وتهجير اهلهم وتغييب شبابهم في السجون وهدم مدنهم إلا أن العراق رجع وانتفض وخرج مئات من الآلاف من الشباب في بغداد وبابل والنجف وكربلاء والقادسية والمثنى وواسط وذي قار وميسان والبصرة ليؤكدوا أن العراق جسد واحد، فكانت انتفاضة تشرين الخالدة التي واجهتها السلطة وأحزابها وميليشياتها بقسوة شديدة من أجل أن تثني الشباب عن هدفهم بتغيير النظام السياسي على نحو كامل وكان هذا مطلب الشباب النهائي. ولولا العوامل الداخلية التي تتمثل أهمها في وجود تيار مقتدى الذي تصرف بصبيانية وانتهازية كبيرة إذ كان يتظاهر على سلطة يخاف من إسقاطها لانه كان له فيها ما لا يقل عن 20% من مسؤوليها ومفسديها، وكذلك تأثير عامل فقدان القيادة الموحدة للانتفاضة وعوامل أخرى حرفت "تشرين" عن وحدة الهدف في تغيير النظام السياسي. ولا نستهين ببعض العوامل الخارجية مثل جائحة كورونا التي اثبطت عزيمة الشباب واهلهم. وبعد أن عرف كل عرابي العملية السياسية وموظفي الاحتلالين الأمريكي والايراني أن الشعب العراقي لا سيما شبابه مصمم على تغيير العملية السياسية فقد عمد أصحاب الاسلام السياسي تدفعهم الدوائر الاستخبارية التي أتت بهم لحكم العراق إلى تشجيع انتشار الخرافة وتحويل الدين إلى مجموعة طقوس متخلفة، بعضها كان موجودا ولقرون خلت، وبعضه تم استحداثه من أجل حرف انتباه الشباب، بعد أن أشاعوا الإحباط فيهم، عن قضاياهم الرئيسة والمهمة إلى ترهات وممارسات وعادات تتخللها الكثير من انواع الموبقات. وقام كل وكيل مرجعية أو ما يسمى شيخ بتوظيف واحد أو اكثر من المهرجين (الرواديد وهي جمع رادود) ليقود الشباب إلى المجهول الوقتي.. ثم مناسبة بعد مناسبة يدخل الشباب في مجهول طويل نسبيا ومع ازدياد وانتشار المخدرات والموبقات، تصبح هذه العادات الجديدة وما يرافقها من موبقات وممارسات شاذة هي الحياة التي يعيشها الشاب العراقي المنخرط فيها، ويكون أداة سهلة وطيعة بيد ما تسمى بالمرجعيات ووكلائهم وشيوخ الدين السياسي فينفذوا مخططاتهم الخبيثة في السيطرة على مقدرات المجتمع وثرواته، ولا يبقى للشباب إلا ما يمارسونه بحرية من مختلف الأفعال المخالفة للقيم الدينية والقيم والمبادئ العامة التي تربى عليها المجتمع اجيال بعد اجيال. حتى تتحول هذه المجموعة الشاذة من الممارسات والطقوس إلى دين جديد للطبقة السياسية الحاكمة، ويكون المنهج الجديد للإسلام السياسي الذي يبيح كل شيء مقابل إبقاء السلطة عند ولي الأمر المحصن والذي هو نائب المعصوم . وعندما فشل الإخوان المسلمون في تمثيل المكون "السني" والسيطرة على قراره السياسي، وكذلك فشل المنهج السلفي في اكتساح شارع المكون "السني" بعد احداث (داعش)، عادت الصوفية السياسية بفعل فاعل خبيث ليعبث بالقيم الإسلامية ويحاول اكتساح الشارع "السني" فيستقيم الأمر من جديد إلى حركات الإسلام السياسي ويتقاسمون خيرات العراق فيما يُسحق شبابه واطفاله وشيبه ورجاله وماجداته. وكلنا تابعنا المسرحية الهزلية التي رفعتها الحكومة تحت اسم مؤتمر التصوف الذي عقد في السابع من شباط/ فبريوري هذا العام. الذي جمع الكثير من قادة الانحراف الديني في المجتمع الإسلامي "السني". وكلنا تابعنا تأسيس وتطور ما تسمى بالرابطة المحمدية التي ظهرت في الانبار والتي ترتبط بعلاقات متميزة مع سلطة الحرس الثوري الإيراني في العراق. ولا زلنا نذكر الدور المخزي لتيار الطريقة الكسنزانية أثناء الغزو الامريكي للعراق. وقد كافأته قوات الاحتلال بجزء بسيط من الكعكة وحصل قادة التيار وابنائه على مراكز وزارية ضمن حكومات الاحتلال المتعاقبة. ويعود دورهم ليظهر بقوة في الانبار تحديدا بعد أن تلاشى خلال العشرين سنة الماضية. كل هؤلاء هم أدوات الدين الجديد للعملية السياسية الأمريكية الإيرانية في العراق . واخيرا اؤكد أن عملية زرع القيم الشاذة الجديدة هذه ليست عفوية لا إرادية ، أو أنها تطورت بطريقة طبيعية لتصل إلى حدود ما وصلت اليه ، وانما جاءت على وفق تخطيط خبيث لدوائر سياسية واستخباراتية عدوة للعراق والامة. وطالما أن الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال دائما ما كانت جزء من المؤامرة على العراق وأهله فإنه يتوجب علينا جميعا أن نواجه هذا التطور الاجتماعي السياسي الجديد وبكل الوسائل المتاحة. علينا جميعا إسقاط الدين الجديد للعملية السياسية الأميركية الإيرانية في العراق من خلال إسقاط العملية السياسية بكاملها.
إرسال تعليق