صباح الزهيري
صبحني أحد أصدقائي الشيوخ بتحية تقول : (( نَحْنُ, نَحِنُّ)) , بين السّكون والكسرة اعتراف صغير.
تبعث الكلمة الجميلة شعوراً بالغبطة , ولشدة ما أعجبتني وجدت نفسي محاولا التماهي معها وألأسهاب في رصد حالات رفات القلوب لدى جماعة آخر المشوار , فلنا حالات مع الله هو فيها نحن , ونحن فيها هو, ومع ذلك هو هو ونحن نحن, قالها المتصوفة شارحين لوعاتهم بعشق المعبود ,وقد صبحني شيخ آخر قائلا : ((صباح الخير ايها المؤرّق,المُورق كسنبلة جادت فأطعمت)) . وجدت في خواطر جنين في نهاية شهره التاسع قبل ان يبهره نور الحياة : (( يطاردني الشعور بالشيخوخة رغم إرادتي وبغير دعوة , لا أدري كيف أتناسى دنوّ النهاية وهيمنة الوداع تحيةً للعمر الطويل الذي أمضيته في الأمان والغبطة, تحية لمتعة الحياة في بحر الحنان والنمو والمعرفة , الآن يأْذنُ الصوت الأبديّ بالرحيل: ودِّع دنياك الجميلة واذهب إلى المجهول , وما المجهول يا قلبي إلا الفناء, دع عنك ترهات الانتقال إلى حياة أخرى, كيف ولماذا وأي حكمةٍ تبرّر وجودها ؟ أمّا المعقول حقّاً فهو ما يحزن له قلبي , الوداع أيّتها الحياة التي تلقيتُ منها كل معنى ثمّ انقضت مخلّفةً وراءها تاريخاً خالياً من أيّ معنى)) تلك كانت في أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ .
يقول باولو كويلو : (( أذا كنت حياً عليك أن تهزّ ذراعيك وتقفز وتصدر ضجيجاً ,عليك أن تضحك وتتكلم مع الآخرين, لأن الحياة هي نقيض الموت تماماً,الموت هو أن تبقى في الوضع نفسه إلى الأبد, إذا كنت أهدأ مما يجب لم تعد حياً )) . من ملحمة كلكامش وجدت ان التعطش المعرفي لجلجامش هو من أوصل الانسان الى المريخ وسيوصله لأبعد من ذلك, ونصائح سيدوري عش ليومك لا لحلمك,كل شيء زائلٌ, احذر غداً وعش الحياة الآن في امرأة تحبك, عش لجسمك لا لوهمك, وانتظر ولداً سيحمل عنك روحك, فالخلود هو التناسل في الوجود, وكلّ شيءٍ باطلٌ أو زائل, أو زائل أو باطلٌ, ترى ما أكثر سيدوري ونصائح سيدوري في هذا العالم, وكم نفتقد لأمثال جلجامش المتعطش للمعرفة والبحث ؟ شديد وقاسي إحساس إن العُمر مر , وإننا فجأة كبرنا, مسئولياتنا زادت وأولياتنا تغيرت , بقينا نحتفظ بحزننا داخلنا , نبكي ونعاني في صمت , نتظاهر بالقوة والسعادة في عز ضعفنا , ورغم ذلك لازال داخلنا ذلك الطفل الذي يريد ان يعيش حياته , تقول الدكتورة نوال السعداوي : (( لقد انتصرت على كل من الحياة والموت, لأننى لم أعد أرغب فى العيش, ولم أعد أخشى الموت)) .
في عمق الليل الساحرللشيوخ المتأهبين للمغادرة تتلاطم الأحلام كأمواج البحر الهادئة في سكونها العميق, وترقص الأفكار بين أضلع الواقع كأنغام ملحمة تعزفها أرواح الخيال في جنون الحب الذي يشتعل كاللهب, وتنبثق الأماني كأزهار الربيع المتفتحة تلتقي الأرواح في رقصة لا تنتهي, كأنها قصيدة عميقة من نسيج الوجود, وفي هذا الفضاء اللامتناهي من الوجود تتجلى الحقائق كأشعة الشمس في الصباح, حيث ينبثق الأمل كالنجمة اللامعة في السماء كل ذلك وأكثر في قصيدة الحياة التي على وشك ان تكتمل . ان كل أقدار ربك خير ولو أوجعتك, تعجبني ميريل ستريب حين تقول : (( أبدا لن أسمح لأحد بإزالة تجاعيد جبيني فهم نتيجة دهشتي امام جمال الحياة , او تلك المحيطه بفمي لانهم يظهرون كم ضحكت وكم قبلت , ولا حتى البقع السوداء تحت عيوني , فخلفهم تختبئ ذكريات احزاني وبكائي , انهم جزء مني واحب جمالهم , سأبقي على ملامحي لأنها دلالة على تجاربي في الحياة)) . أيتها العتمة المذابة في شقوق الحياة, ماذا تخبئين لي تحت أستارك؟ يقول شكسبير في حكمة له : (( الأمل بالفرح يوازي الفرح ذاته )), إن الحزن الصامت يهمس في القلب حتى يحطمه, وعليه سنمضي العمر نلملم شتات الروح , فليس للمرء من داعم سوى نفسه أولاً , حين يقرر أن يكون بمستوى صدمات الحياة , وقدرته على التجاوز هي معيار جودة القدرة على النهوض والتعافي .
إرسال تعليق