جاسم الشمري
يُقال بأن اللغة التي لا تتطوّر تندثر، وهذه حقيقة أثبتتها التجارب الإنسانية في التعامل مع اللغات، التي هي الأداة الأوسع في التواصل بين الشعوب . والكتابة الصحفية ، وبالذات مقالات الرأي، متحرّكة ومتطوّرة لارتباطها بالإنسان والمجتمع وبتطوّرات حياة الناس اليومية، ومن هنا تأتي أهمية العناية بها . ومما لا خلاف عليه بين ذوي الاختصاص، وربما عموم الكُتّاب والقراء على حدّ سواء، بأنه لا يمكن القفز على دور الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) في خلق جمهور يَميل إلى العبارات القصيرة ، ويَنفر من الفقرات الطويلة، فضلا عن الدراسات والبحوث والمقالات . والكتابة من الأدوات القيّمة في التخاطب الإنساني، ولهذا حَدّد العديد من علماء اللغة وغيرهم بعض الصفات الواجب توفرها في الكتابة الإبداعية . ومن أبرز تلك الصفات الوضوح ، وذلك لأن الخطاب الغامض لا يُحقّق هدف التواصل مع الآخرين . وينبغي أن تَتّسم الكتابة، أيضا، بالحيادية والموضوعية قدر الإمكان ، وكذلك الإيجاز، والبعد عن الإطناب المُخِلّ . وسنركز على «خصيصة الإيجاز» باعتبار أن التعلّق بالإسهاب والإطالة من المشاكل التي تعاني منها الكثير من الكتابات اليوم .
وقد صرنا اليوم في عصر مختلف تماما عن العصور السابقة ، وهو ليس عصر التواصل والنقل والأكل السريع فقط، بل هو عصر القراءة السريعة، ولهذا يفترض أن تبتعد الكتابة عن تنفير القارئ ، والسعي لشَدّه للموضوع عبر الأسلوب المُنَمَّق ، والأفكار الجديدة والمشوقة والتنويرية ، والتعليمية والتثقيفية ! والإيجاز هو تنقية الكتابة من الشوائب اللفظية والفكرية ، ومن الغموض والتعقيد . ومع ذلك قد تكون بعض المواضيع بحاجة إلى استدلالات أكثر وهنا يُجْبر الكاتب على إطالة الكلام، وهذا الأمر مختلف من حال إلى حال، وفي كل الأحوال فإن الإيجاز جزء من مهام العقل الذكي كون الكلام الموجز يدفع المتلقي لحفظه. ولهذا نجد أن الأمثال الدارجة والأقوال المأثورة والحكم الإنسانية لمختلف الثقافات والشعوب تمتاز بالإيجاز وتُتَداول على ألسِنة الناس لأنها موجزة، ومليئة بالحكم والخير والوعي والتجارب. وأتصوّر أن المقال الطويل ليس دليلا على القدرات البارعة لكاتبه لأن الصعوبة ليست في الإسهاب وإنما في إمكانية الإيجاز، والقدرة على توصيل الفكرة، وبمعان عميقة ورصينة ، رغم قلّة الكلمات. وكلامنا لا يعني الدفع للإخلال بالمعنى لأن الإيجاز المشوّه خلل في الفكر، ويفترض أن تَكْتَمل الفكرة وإلا فهي فكرة مشوّهة.
والغاية من الإيجاز هي الابتعاد عن إرهاق كاهل فكر القارئ بالعبارات الطويلة، والكلمات الغامضة الغريبة، وربما، المندثرة، وكذلك العمل على إيصال الرسالة، وإنعاش الفكر بكلمات سليمة وقليلة العدد، بعيدا عن التكلّف والحشو . ولا يغيب عن فكر الكاتب الحاذق أن لكل مَقام مَقالا يَليق به وبأهله، وهذه قاعدة دقيقة وذهبية ينبغي الاهتمام بها والعناية بتفحّصها والتركيز عليها . ولا يفوتنا التذكير بضرورة الدقّة في المعلومات الواردة بالمقال لأنها مسؤولية إنسانية ، وأخلاقية، ومهنية، وتاريخية، وقانونية، ويفترض عدم استغلال رصانة المؤسسة الصحفية والإعلامية، وثقتها بكاتب المقال، وكذلك ثقة المتلقّي (القارئ) بالكاتب لتمرير معلومات سقيمة وضعيفة ! وينبغي على الكاتب المُمَيّز أن يرتقي بكلامه إلى مستوى الفكر الإنساني الناضج، وتمحيص الكلام قبل نقله للجمهور.ونكاد نجزم أن النضج في الكتابة يقوم على اللغة السليمة الواضحة والبسيطة والموجزة بعيدا عن المفردات السقيمة، والبناء الركيك للجمل، والتكرار السقيم المُمِلّ . وهذا ما أكدت عليه كتب التراث التي ينبغي الرجوع إليها وتوظيفها بما يخدم عصرنا الحاضر الذي اختلفت فيه الكثير من المقاييس والموازين والتطلعات . وخلاصة الكلام يُفترض بالكاتب النبيه ملاحقة الحقائق وتصفيتها من الشوائب، والاقتصاد في الكلمات دون المساس بجوهر الأفكار المطروحة والمعلومات .
إرسال تعليق