ياسر عبدالعزيز
ونحن على مشارف الشهر السادس من عدوان الاحتلال على غزة، لا تزال المقاومة صامدة صمود أسطوري رغم الحصار المفروض عليها منذ سبعة عشر عاما الذي يعني بالنتيجة، عدم جهوزية المقاومة لهذه الحرب الطويلة، وهو ما كان يراهن عليه الاحتلال، رغم عدم قدرته استراتيجيا على المواجهات الطويلة، بحسب التحليلات الرصينة ، لما يسببه ذلك من ضعف في البنية الاقتصادية والاجتماعية للكيان الهش بطبعه ، وهو ما تؤكده المعطيات، من انهيار للشيكل وزيادة كبيرة في التضخم، وتوقف مشاريع كثيرة، على المستوى الاقتصادي، وهروب ما يقارب النصف مليون ممن جلبوا لسرقة الأرض من الكيان المحتل، وهذا على المستوى المجتمعي، يضاف إلى ذلك حركات التمرد التي يتم استيعابها بين جنود قوات الاحتلال، سواء رفضا للقتال على خطوط المواجهة، واعتراضهم على استثناء الشباب المتدينين من الخدمة العسكرية بالكلية، ما يعني أن هذا المجتمع يغلي، يضاف إلى ذلك الأزمة السياسية التي تمر بها حكومة نتنياهو سواء من قبل المعارضة أو من أسر المحتجزين لدى المقاومة في غزة ، والضغوط الدولية على المستويات الحكومية والشعبية على مجمل الأزمة وتعاطي حكومة الاحتلال وجيشها معها . لقد كان قرار القتال، كرها، لا شك، إذ نظرنا للمعطيات التي وضعت في الاعتبار كي يأخذ قرار الحرب، لكن عسى أن تكرهوا شيئا، ويجعل الله فيه خيرا كثير، ولعل الخير الذي خلفته عملية طوفان الأقصى متعدد على المستوى إحياء القضية التي باتت تتراجع، عمدا مع سبق الإصرار، ويمكن الرجوع لمقال (الصراع العربي الإسرائيلي) في ذلك، لتتراجع القضية أكثر بعد توقيع اتفاقية أوسلو، ثم تقلص إلى حد وصل إلى تخادم طرف فلسطيني رأى في نفسي وصيا على القضية، فخدم الاحتلال في تنسيق أمني وضع في اتفاق أوسلو وهندس مشروعه الأميركي دايتون، وصولا إلى مسلسل التهويد في القدس وقضم أراضي الضفة الغربية ، بالتزامن مع التصريحات العلنية لقادة الكيان المحتل بالرفض القطعي لقيام دولة فلسطينية وإنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، بالتوازي مع حالة من الهرولة غير المسبوقة لتطبيع الدول العربية العلاقات مع الكيان المحتل، في حالة لم يسبقها مثيل لتصفية القضية وسرقة ما أبقته اتفاقية أوسلو للفلسطينيين والمسلمين .
في الأيام الأخيرة بدأت تتعالى أصوات كانت خافتة، تلوم المقاومة على عملية طوفان الأقصى، وتنظر على خلفية أن رد فعل الاحتلال كان أكبر من مكتسبات العملية، وهي نظرة قاصرة، إذا قيمنا الرأي من منطلق حسن النية، وإذا تتبعنا من يطلق الفكرة، ويروج لها، نستطيع بكل أريحية أن نقول إن نياته أبعد من الحرص على الأرواح أو العمران، على الرغم من أن أستاذ قسم التاريخ في الجامعة العبرية ، يوفال نوح هراري، يقول في مقال له منشور في صحيفة يديعوت احرنوت، إن (الحرب في قطاع غزة ليست على من يقتل أكثر، بل على من يقترب من تحقيق أهدافه السياسية) وأن (المنتصر في الحرب ليس من يقتل أكثر أو يأسر أكثر، أو يدمر مباني أكثر، أو يحتل أكثر أراضي، المنتصر من يحقق أهدافه السياسية في الحرب، ولمعرفة من المنتصر، علينا التعرف على أهداف الطرفين في الحرب) وهو ما حققته المقاومة حتى الآن بإعادة القضية إلى الواجهة، وكسبت احترام الدنيا، وأجبرت حلفاء الاحتلال على التراجع عن مواقفهم نوعيا، لذا فإن المروجين لفكرة أن الحرب لم تجلب إلا الخراب ، هم إما من أصحاب "لاقعدن لهم صراطك المستقيم" أو ممن تلوثوا بالتنسيق الأمني، والطائفتان متورطتان في شراكة المحتل للقضاء على المقاومة وتمكينه، بزعم أن المنطقة ستهدأ، وأن التنمية ستعم، والأولى قد تستفاد على المستوى القريب، لكنها ستبتلع لاحقا بعد أن يتمكن الاحتلال من المنطقة، سواء من مشروعه التوسعي مباشرة، أو من المشروع الإيراني، أو سيكونون فريسة يتصارع عليه المشروعان، أو الثاني فهو مأكول قبل أن يتمكن الاحتلال من المنطقة، ولعل حادثة اعتداء جنود الاحتلال على مركز لشرطة السلطة منذ شهر وخلف جريحاً من عناصر السلطة لدليل يضاف إلى مشاريع الاستيطان التي تنتظر التنفيذ على أراضي الضفة، ومن ثم لن يجدوا أرضا يحكمونها، ولا مساعدات ينهبونها . مشروع اليوم التالي للحرب في غزة الذي طرحه نتنياهو، يتقاطع معه في بعضها الإدارة الأميركية التي ترى دورا أكبر للسلطة الفلسطينية في رام الله، لا سيما في الشق الأمني في القطاع بعد أن توافق "الجميع" على تصفية المقاومة، ومنذ أيام طرح، رئيس مخابرات السلطة، ماجد فرج، فكرة إنشاء قوة أمنية بديلة للقوة العاملة في غزة، ويبدو أن الاغتيالات المستمرة لقادة الأفرع والإدارات الشرطية في القطاع من قبل قوات الاحتلال يعد تهيئة لهذا المشروع الذي طرحه فرج، حتى بعد أن أعلن مشايخ العشائر والوجهاء في قطاع غزة وقوفها في ظهر المقاومة داعمة لها ورافضة أي انقلاب عليها، ولا شك أن موقف الوجهاء ومشايخ العشائر نطبق من دافع وطني، لكنه أيضا مؤسس على الاتعاظ من تجربة الصحوات في كل من العراق ومصر، وإن كان أثرها على الأولى أظهر، ما أفشل المشروع مؤقتا، لكن مع تسارع عمليات الاغتيالات ودخول المال "المزيت" قد يستمال بعض ضعاف النفوس .
إن فكرة إنشاء قوة أمنية بديلة عن القوة العاملة في غزة تفتح جبهة جديدة على المقاومة؛ وطعنة في ظهرها في توقيت عصيب، تحتاج فيه المقاومة وظهيرها الشعبي، أن تبدي تلاحما وتماسكا لتتفرغ المقاومة من مجابهة الاحتلال والقوى الكبرى التي تقاتل معه، مع ذلك فإن معوقات كثر ستواجه هذه القوة المراد تأسيسها، فحتى مع اقتراح تشكيل عماد هذه القوة من الأعضاء المتبقين من قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في غزة، لضمان ولائهم، إلا أن هناك تحديات كبيرة تواجه هذا المشروع، أولها أن الاحتلال نفسه يرغب في تولي العملية الأمنية بنفسه ليتمكن من نزع السلاح في غزة، ثم إن اختبار ولاء العناصر المعول عليه أمر غاية في الصعوبة بعد أن ذاق كل بيت في غزة مرارة فقد أحد أقاربه في تلك الحرب الهمجية من الاحتلال، ومن ثم فإن جهود تمييز نواة أفراد الأمن في المشروع سيكون درب من دروب المستحيل، لا سيما وأن المشروع يعتمد أيضاً على نجاح السلطة الفلسطينية في إصلاح نفسها واكتساب المصداقية للحكم في مرحلة ما بعد الحرب في غزة، بعد أداء عناصر أمنها في الضفة وسمعتها التي خلفها التنسيق الأمني , هذا الطرح الذي تسعى إليه كل من أميركا والسلطة والذي يمكن أن توافق عليه حكومة نتنياهو، أو من سيأتي بعدها، بعد انتهاء الحرب، ولو وضعت عليه تعديلات يمكن أن تقرأ على أمرين ، الأول هو أن الاحتلال وداعميه غربيا وإقليمين باتوا موقنين أن الاحتلال هزم هزيمة إستراتيجية ، وأن محاولات تعويمه للقيام بالدور الذي زرع من أجله في هذه المنطقة بات على المحك، ومن ثم يجب القضاء على المقاومة وضمان تثبيت الوضع بعد ذلك، حتى لا تعيد المقاومة ترتيب صفوفها، فيما لو هزمت ، أو أن تصيب المنطقة عدوى المقاومة بعد الواقع المحتمل، والأمر الثاني هو أنه وكما أن الاحتلال له دور وظيفي فإن السلطة أيضا بات دورها الوظيفي يزكم الأنوف ، وهو ما سيجعل، في مخيلتي أنصاره ومنتسبيه يعيدون حساباتهم التي كانت مبنية على نضال الرعيل الأول ومحى هذا الجيل هذه الأمجاد، بعد أن أزاحت المقاومة وحاضنتها الشعبية ورقة التوت التي كانت تغطي عورة الخلف بل وأصابوا سلفهم بالعار.
إرسال تعليق