مشاهدات
محمود الجاف
من اجل التخلص من حكم الكنيسة كان لابد ان يجد المفكرون الأوربيون رابطة غير دينية تجمع الشعوب . ومن هنا ولدت مصطلحات جديدة تشكلت على أساسها الدول التي نعرفها اليوم . ولكي يحافظوا عليها أحاطوها بالقدسية وكتبوا من اجلها الأناشيد وصنعوا لها الرايات .. الوطنية والقومية والشيوعية والعلمانية والليبرالية . كلها نظريات انتماء حاولوا تقديمها كنماذج بديلة عن الارتباطات العقائدية . وحظيت بالاقبال الشديد فقد استغلها الساسة لتشكيل كيانات سلطوية تحت مسمى الأوطان . لهذا تجد أدباء القرن الماضي تغنوا بها من مختلف الثقافات ولو مررنا على دلالة هذه الكلمة في اللغة العربية لعرفنا انها لم تكن متداولة اطلاقاً بالمعنى الذي صارت تعرف به ابتداءا من عصر اللقاء بالحداثة الغربية .. في لسان العرب . الوطن هو : المنزل الذي تقيم فيه . وأوطان الغنم والبقر مرابضها . ومواطن مكة مواقفها . وفي التنزيل : ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) وفي الحديث ( نهى صلى الله عليه وسلم عن ايطان المساجد ، أي اتخاذها وطناً ) ..
كان أول ظهور للكلمة في اللغة الفرنسية في عصر النهضة حيث كانت لا تزال تعد حتى نهاية القرن السادس عشر كلمة " رطانة " ادخلها الايطاليون . ومع أن الحس القومي كان قد بدأ يتبلور في القرن السابع عشر إلا أن كلمة " الوطن " كانت لا تزال تشير الى شخص الملك والولاء الواجب له على رعاياه ، فالناس كما كان يقال على دين ملوكها . وفي تلك الحقبة التي شهدت تطور الصراع بين الملوك القوميين والكنيسة صارت كلمة الوطن تعني ذلك الشيء الذي من أجله يجب أن يُضحي الانسان بحياته .. لم يكن هذا المفهوم شائع في الحضارات القديمة بل حتى في زمن الجاهليّة لانها لم تذكر في أشعارهم ولم تَرِد بتاتاً في المعاجم العربية ولا في القرآن أو في الصحاح ولكن هذا المصطلح ظهر خلال العصر العباسي على لسان الشّاعر ابن الرومي الذي قال عنه :
بلدٌ صَحبْتُ به الشبيبة والصِّبا ... ولبستُ فيه العيْشَ وهو جديدُ ..
مفهوم الوطن بالمعنى الحاليّ : هو البلد الذي يسكنه المرء ويرتبط به وينتمي إليه ويحصل على الجنسيّة منه .. إلا المسلمون الذين شتتهم هذه الاسماء الرنانة منذ ان تفككت دولتهم وسقطوا في وحل الإمروصفيونية المُظلم الذي قادهم اليه حكامهم العملاء الذين ساقتهم الإمبريالية كالبهائم لتدمير كل شيء وأولها الإنسان .. بدءا من المنزل الذي لانملكه والمدينة التي طُردنا منها ثم الحدودٍ الجُغرافيّة التي عبرناها مُجبرين بعد ان دخلته شياطين الغدر والخطيئة .. والمصيبة إن الشخص الذي يعيش فيه عليه ان يموت ويجوع ويعرى من اجله ومع هذا لابد ان يُحبه ويُناضل ويقاتل في سبيله رغم انه لا يجد فيه الأمن والاستقرار ولاتتوفر له فيه ابسط الحاجات الأساسيّة والأدهى من ذلك كله إن من دافعوا عنه اعتقلوا فيه ومازال الكثير منهم في غياهب السجون .. ومن المفارقات أن وطنيوا اليوم تخطوا كل هذه القواعد ليحدثونا عنه على أساس القطر ( الحدود المرسومة من الاستعمار ) اتفاقية ( سايكس بيكو ) فأصبح الوطن هو سوريا اليوم ومصر واليمن ووو ... الخ ..
هل سمعتم او قرأتم في التأريخ عن دموع بكت على بشر او حزنا يحزن عليهم ويموت من القهر ؟.. هل فكر العدو في ردود افعالهم بعد ان خسروا كل شيء .. كل شيء . ولان الوطن الان في ظل الدم قراطية فقد تطورت الحياة فيه حتى وصلنا الى " النزوح الثالث " في قصة قد تكون هي الابسط على بقعة الدم الصغيرة من هذا الذي يسمى وطن والذي يحاصر جلادوه الان 900 اسرة في محافظة ديالى "معسكر سعد" الذي كان قبل الاحتلال احد اهم قلاع الجيش العراقي وبوابة الانتصارات في حرب الثمانينات وخط الامدادات الرئيسية قبل تعرضه الى التدمير .. لكنه رغم جروحه احتضن مئات الاسر الهاربة .. القصة التي بدأت اولى فصولها بعد ان هجروا من اطراف خانقين بعد 2003 ليختبئوا في قاعات اولادهم الجنود طيلة اكثر من 20 عام بحثًا عن الأمن والاستقرار .. ثم الارهاب والفقر الذي لم ينجح في اخراجهم من ارضه .. لكن قطار الاستثمار هو الاقوى حتى الان وقد جاء ليؤكد ان العروش والكروش تديرها وتتحكم بها العاهرات والقروش رغم انهم مثل الملايين غيرهم تحت خط الفقر وليس لديهم أي بدائل . منهم ارامل ليس لديهم اي معيل . وقد أقر قائم مقام قضاء بعقوبة عبدالله الحيالي بأن قرابة 300- 400 دونم من معسكر سعد أحيل للاستعمار او الاستثمار بالمصطلح الحديث وتم مخاطبتهم بشكل رسمي على ضرورة اخلاءه من الاسر ..
ان الساسة يديرون الدفة بنجاح كما يشاؤون وتبقى الشعوب الجاهلة الصامتة هي الضحية .
ان حب الوطن يتلاشى جيلا بعد جيل . خصوصا بعد ان صار الناس طعاما للقروش من هول ما عانوه فيه .. وازداد كلما زادت العطايا التي اغرقتنا فيها حكومات المحتل .. فالكثير من الناس ضيعوا حياتهم وقدّموا أبنائهم ثمن ما يسمى التغيير واوصلوا الى الحكم طبقة لو قارنتها بالمغول لكان تيموجين وجنوده ملائكة بالنسبة لهم ولهذا تراهم الان يعلنون ندمهم لكن لات ساعة مندم ..
يقول ليو تولستوي : " الوطن ليس قطعة من الأرض ولا مجموعة من البشر ، بل هو المكان الذي تُحفظ فيه كرامة الإنسان ." وسئل الفيلسوف جان جاك روسو ما هو الوطن؟ .. فأجاب : هو المكان الذي لا يبلغ فيه " مواطن "من الثراء ما يجعله قادراً على شراء "مواطن" آخر، ولا يبلغ فيه "مواطن" من الفقر ما يجعله مضطراً أن يبيع نفسه أو كرامته . وتم البيع والشراء الان . بل ان عهد العبودية تلوح بوادره في الافق ..
ليس الوطن أرضاً فقط . لكنه الأرض والحق معاً . فإن كانت الأرض معهم . فليكن الحق معك ..
ونحن اليوم كالاشجار التي تقف بلا جذور . بالامس رحلنا الى الجنوب واليوم الى الوسط وغدا نُهجَّر الى شرقه ثم الى شماله او نخرج الى عالم جديد فيه غابات اخرى عديدة كانها حمراء .. لاتشبه ثمارنا ولا اوراقنا التي كانت خضراء .. في وطنك عليك ان تترك بيتك ومدينتك وقريتك وتسكن في خيمة .. فيا ايها الوطن الاكبر . من اجلك كم وطن عليه ان يموت ؟.
النفس وطنها الجسد . والفرد وطنه العائلة التي وطنها المجتمع .. لكن كل شيء تبخر فجأة في هذا الزمن .. ودخلنا في دوامة البؤس والظلم والجبروت والمحن .. وانتهت قصة الأرض الذي مات من اجلها الكثيرون وصبرنا وتذوقنا الزمهرير ثم اختفى في لمح البصر . وكأنه لم يكن له وجود فقد جاهدوا ليخفوا له كل أثر .. ذاك هو العراق العريق وشعبه الذي لم يخلق مثله في البشر .. اختفت الشمس وخيم الظلام على القمر . لكن هذا هو حكم القدر ..
إرسال تعليق