من أجل دولة عادلة متحضرة

مشاهدات



كفاح محمود

 

منذ قيام دول الشرق الأوسط الجمهوريات والممالك والنُّخب السياسية والفكرية والجمعيات والأحزاب تتأرجح بين مجموعة من الخيارات لتنظيم نهج وهيكل تلك الدول، وفي مقدمة تلك الخيارات خياران مهمان اختزلا منظومة التفكير السائدة في حينها، وهما (الإسلام هو الحل) و(الديمقراطية هي الحل)، هذان الحلّان تأرجحا أيضاً بين قبول الأغلبية القبلية وأعرافها السائدة، والأقرب إلى مزاجها وحسّها العام وهو الخيار الديني، بينما انحصر الخيار الثاني (الديمقراطية) بالنخب التنويرية المتأثّرة بالنظام الأوروبي وخاصة البريطاني والفرنسي . على ساحة هذين الخيارين خاضت تلك النخب وخاصة خيار الديمقراطية ، نضالاً دؤوباً وتضحيات جساماً لتحقيق شيء من هذا الحل في مجتمعات بعيدة كلّ البعد عن هذا النهج في الحياة الاجتماعية ، التي تتقاطع تماماً مع تطبيقات الديمقراطية، خاصة في جانبها الاجتماعي، حيث تصطدم بقوة مع منظومة متوارثة من التقاليد والأعراف، ناهيك عن القواعد الأساسية في الدين، وما يرتبط فكرياً وثقافياً بحريّة الرأي والتعبير، ففي معظم بلداننا ومجتمعاتنا تغلب الثقافة القبلية والدينية على تفكير الناس وتعامُلاتهم مع مفردات الحياة وتفصيلاتها .

 

حقوق الانسان
هذه الثقافة المتكلّسة عبر قرون تتقاطع في أساسياتها مع النمط الغربي للديمقراطية، ومع حريّة الرأي والتفكير والتعبير عنهما تحديداً، حيث تصطدم بجدران الممنوعات التي تفرضها هذه الثقافة، خاصة ما يتعلق بالنساء وحقوق الإنسان والمكوّنات الدينية المختلفة، وهنا أتحدث أفقياً عن المجتمعات وليس عن النظام السياسي الذي ربّما يفرضُ نوعاً من هذه السلوكيات نظريا كما حصل في كلّ من العراق ومصر وسوريا والجزائر وتونس والسودان وإيران وحتى تركيا، التي تعدُّ نفسها مع إسرائيل أعرق ديمقراطيتين في الشرق الأوسط، وتتناسيان أن التطرّف والتحفظ الديني فيهما يُتّهم بالكفر أو الخيانة كل مَنْ يعارضهما فكرياً أو دينياً. هذا النمط من الثقافات الأفقية منع أيَّ حلٍّ من هذا النوع، ورفع شعار آخر عدّ فيه الدين هو الحل، كما في شعار الأحزاب الدينية الإسلامية التي فشلت هي الأخرى فشلاً ذريعاً في مصر وتركيا وقبلهما إيران وأفغانستان اللتين تحوّلتا إلى سجن رهيب يخضع لسلطات عسكرية وأمنية عقائدية، تعتمد القتل في أيّ توجُّه معارض باستخدام القواعد الدينية، باعتبار معارضتهم هي معارضة لعقيدة الله ودستوره، وهو ما يجري الآن على أيدي الفصائل والميليشيات العقائدية التي احتوت الدولة ومؤسساتها وتعمل على تطبيق تعاليم عقائدها الدينية والمذهبية خارج مفهوم الدولة والدستور. من هنا ندركُ جيداً أن هذه الجدران الدينية والقبلية، وما يرتبط بهما من متوارث التقاليد والأعراف هي التي تتحكّم في مفاصل مهمّة من حياة الناس، حتى أصبحت الآمر الناهي في كثير من قواعد السلوك الاجتماعي، وخاصة في النصف المُعطّل من المجتمع، بل اندفع إلى مواقع القضاء ليكون بديلاً عنه، ناهيك عن دوره المفصلي في إيصال أصحاب هذه الثقافات إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية بآليات قبلية أو فتاوى دينية، وقد بان ذلك بشكل واضح جداً في كلّ الانتخابات التي جرت في معظم بلدان الحَبُو الديمقراطي سواءً في العراق أو سوريا واليمن ولبنان وإيران، وبقية دول شمال إفريقياـ ومن ماثلهم في التركيب الاجتماعي والسياسي.

فشل ذريع
ورغم التقدُّم البطيء الحاصل في تطبيقات الخيارين، وبعد أكثر من قرن من الحكم وتجاربهما السياسية القاسية التي تركت ظلالاً قاتمة على معظم بلدان الشرق الأوسط لم تنجح أيّة تجربة من تجارب الخيارين، فقد فشل الخيار الديني فشلاً ذريعاً، ولم يستطع مواجهة مشكلة حقوق الإنسان والمرأة، وتداوُل الحكم والمكوّنات غير الإسلامية ، وفي المقابل أيضاً عجزت النُّخب السياسية من ترجمة الحل الديمقراطي، فاصطدمت بمنظوماتٍ اجتماعيةٍ ترتبط بشكل وثيق بالعادات والتقاليد التي يمتلك مفاتيحها رجال الدين والقبيلة، والتي لا يُستغنى عنها لارتباطها الشديد بكرسي الحكم الاجتماعي المطلق . من هنا نكتشف مدى ضخامة التحدّي الذي يواجه قوى التغيير في هذه المجتمعات التي تعيش مرحلة انتقالية صعبة سبق للأوروبيين أن مرّوا بها مع اختلافات هنا وهناك في التجربتين، إلا أن الأولى نجحت في الخيار الديمقراطي بفصل الدين عن الدولة وبلورة مفهوم المواطنة الجامعة لتُنهي الصراعات العرقية والدينية، وتضع العدالة عموداً أساسياً للدولة التي ترتكز على العلم والتعليم والمعرفة ضمن نظام تربوي رفيع المستوى. اعتقد أننا اليوم أحوج ما نكون، بعد تجارب البلاد المريرة سياسياً وعسكرياً إلى سيادة العدالة والبحث عن بديل يتناغم مع بيئتنا وقواعدها الاجتماعية يحفظ، ويصونُ مكانةَ الدين بفصله عن الدولة والسياسة، وتعزيز احترام التركيبات القبلية ورموزها بإبعادها عن أيِّ تدخُّل في النظام السياسي والقضائي، الذي يمنع بالمطلق أي تنظيم أو نشاط سياسي في المؤسسات التعليمية والعسكرية والأمنية والقضائية، بما يحصِّن المجتمع، وينأى به من أي تناحُر أو انقسام يمسُّ السلم والأمن المجتمعي، ويترك آثاراً بالغة على نموُّه وتطوُّره .

 

تعليقات

أحدث أقدم