صباح الزهيري
(( تَصْفُو الحَياةُ لجَاهِلٍ أوْ غافِلٍ عَمّا مَضَى فيها وَمَا يُتَوَقّعُ
وَلمَنْ يُغالِطُ في الحَقائِقِ نفسَهُ وَيَسومُها طَلَبَ المُحالِ فتطمَعُ )) .
تحكي الأساطير عن رجل شاهد الوباء وسأله إلى أين ؟ قال : إلى قرية كذا , فقد أمرت بخمسة آلاف منهم , وحينما عاد الوباء رآه الرجل في الطريق وقال له : لقد حصدت خمسين ألفاً ؟ فرد الوباء بأنه حصد خمسة آلاف أما البقية فقد حصدهم الوهم , حين ترى الناس يتساقطون حولك تبدأ الأسئلة والشكوك والاحتمالات وما لم يكن في النفس قوة وثقة , وفي القلب شجاعة وجرأة , وفي العقل يقظة وملاحظة , فربما سقط صريع الوهم من لم يسقط صريع الوباء.
تقول ألهام المجيد :
فلكل قلب في الهوى أسباب نعاني من شوقنا المرتاب, ومن قيد البعاد والاقتراب , من الخريف , من الشتاء , من الوداع بلا إياب , من الأحرف التي نهرب منها , من الأسرار المطوية في أطراف كتاب , نعاني من الوجوه التي تسكننا , ومن طرقة الوهم على الأبواب )) , نمر هذه الأيام ومعنا دولتنا الخرفة بجدالات لا تبق للعقل منفذ نور , ترى هل يتحمل مفهوم الوهم ما يحصل مِن تمادٍ بالخرافة, أم هناك ما بعد الوهم وهمٌ ؟ كثيرٌ من السلوكيّات والتصرّفات والأفكار , غير نابعةٍ من مُنطَلقٍ علمي أو فهمٍ واضح , بل منبعها في الحقيقةِ الهوسُ الديني والهيستيريا الجماعيةُ المُنتشرة , وبعضُ الأيديولوجيات الثقافيّة التي تتبعُ القطيع , دون تثبّت ولا مُحاولةِ معرفةٍ أو اطّلاع .
والوهم عند فولتير يحتل صدارة كلَّ المُتَعِ وأشكال السعادة , او كما يقول الحلاج : (( يا موضع الناظر من ناظري , ويا مكان السرّ من خاطـري , يا جملة الكلّ التي كلها أحبّ , من بعضي ومن سائري , تراك ترثي للذي قلبه مُعَلَق في مخلبي طائر , مدَلَهٌ حيرانُ مستوحشٌ , يهرب من قفر إلى آخر , يسري وما يدري وأسراره , تسري كلمح البارق النائر , كسرعة الوهم لِمَنْ وهمه على , دقيق الغامض الغابر , في لجّ بحر الفكر تجري به لطائف , من قدرة القدر )) . لقد حارب الفلاسفة الوهم طويلا إلى أن انتهوا إلى أنه وسيلة للتأمل , ذلك أن الوهم لا يكون أبدا في الإدراك بل في الحكم الذي يتولّد عنه , سواء أكان صائبا أم خاطئا , فنقدُ الأفكار السّائدة والشكّ في القناعاتِ وغربلةُ الموروث , تجربةٌ ضروريةٌ لتحريرِ العقلِ من الأوهامِ والخُرافاتِ والأكاذيب , واقترابِه أكثر من الحقيقة , وبالرّغم من ذلك , يبدو أن الإنسانَ يحتاجُ إلى مجموعةٍ من الأوهام الفكريّة والثقافيةِ كوسائل تكيّف مع بعض الحقائقِ الصّادمة , من هنا جاء قول (دوستويفسكي) : (( إن الحقيقةَ الصّادقة دائماً ما تكونُ غيـر قابلةٍ أن تُصدَّق , فإن شئتَ أن تجعلَ الحقيقة قابلةً أن تُصدَّق , عليك أن تُضيف إليها شيئاً من الكذب )) .
يقول نزار قباني : (( ثُوري, أحبّكِ أن تثُوري , ثُوري على شرق السبايا والتكايا والبخُورِ , ثُوري على التاريخ , وانتصري على الوهم الكبيرِ , لا ترهبي أحداً فإن الشمس مقبرةُ النسورِ , ثُوري على شرقٍ يراكِ وليمةً فوقَ السرير )) . يقولُ الدكتور خالد أحمد توفيق : (( مساكينٌ نحنُ البشر, نُطارد الأوْهام في كلّ صوب , ثمّ نكتشفُ أنـّها أوهام , بعد ثوانٍ نرى أوهاماً جديدةً في الأُفق فنُطاردها)) , وأظنُّ أن السّبب يرجع إلى أن عقلَ الإنسان لا يحتملُ الحقيقة المُرّة , لذلك يخترعُ الوهْم اللذيذ ليعيشَ فيه , ولما كانت الجماهيرُ أبداً عطشى للحقيقة , الا انهم أمامَ الحقائق التي تُزعجهم , يحوّلون أنظارَهم باتجاهٍ آخر, ويفضّلون تأليه الخطأ إذا ما جذَبهم الخطأ , فمن يعرفُ إيهامَهم يُصبِح سيّداً لهم , ومن يُحاول قشْعَ الأوهام عن أعينِهم يُصبُح ضحيةً لهم , وهكذا فنحن نختارُ تصديقَ الحقيقةَ الأجمل والأقرب إلى قلوبنا والأقلّ إزعاجاً لأنفسنا , وبهذا تكون ما نسمّيه الحقيقةَ أقربَ إلى الوهْم , فمن المُفزع والمُدهِش , أن نصطدمَ ببعض الحقائقِ حول كثيرٍ من قناعاتِنا وأفكارِنا وسلوكيّاتنا وأمورٍ كنا نأخذها كمُسلّمات, وعليه يقول رينيه ديكارت : (( من أجل البحث عن الحقيقة , من الضّروري مرةً واحدةً في مسارِ حياتنا , أن نشكّ -قدرَ الإمكان- في كلّ شيء )) .
قم يا صريع الوهم واسأل بالنهى ما قيمة الإنسان ما يعليه
واسمع تحدّثك الحياة فإنّها أستاذة التأديب و التّفقيه
وانصب فمدرسة الحياة بليغة تملي الدروس و جلّ ما تمليه
سلها وإن صمتت فصمت جلالها أجلى من التصريح و التنويه.
إرسال تعليق