صباح الزهيري
تقول أحلام مستغانمي : (( الذكريات الجميلة كسربٍ من الطيور, لا يُمكنك القبض عليها ولكن يمكنك الاستمتاع بمرورها )) .
من المعلوم ان الأشياء تنتهي , لكن الذكريات تدوم للأبد , فهي اكثر وفاء من أصحابها, وهي ظل عليه تقف أرواحنا , لتغرد كلما بزغ نورها فنعانق أفياؤها, وكلما خطتْ مشاعرنا صوب المكان , وهي ثوب لا يبلى ولا يندثر , نغفو بها ونستيقظ عليها كلما فَرَّ العمر منا, وتلك الخدوش أو الشروخ في الروح , وليس في جسد الذكرى جرح , ونغفل معنى الجرح الممتد على حروف الزمن , فيولد للمجروح عسلا ممزوجا بدم , الذكريات شوارع وأزقة نجوبها على أطراف الفؤاد, نسترق منها رحيق الأيام , ونجاهد أن نكفكف دمع الألم إذا ما جلدتنا سياط الخيبات, تحت جدارها نداري أوجاعنا, ومنها نهرب إليها إذا ما اشتد الوطيس , هي قانون يأبى الخنوع لسلطة النسيان , ولا لسطوة البقاء, تقف بين بين , كأنها قدم وقف على حرف سيف بتار, رغم النزف نبقى صامدين أمامها, وأمامها تقف اللغات حائرة عاجزة ضعيفة . يقول ابراهيم البهرزي : ((حين الأيّام تساقط ُ من خُرج الحكمة, والأقدام ُتراوغ حافية ًعشبَ الماضي , مُنحنيا ً تقطع دربا ً ما عاد يظلّلهُ غير دخان المحتطب البردان , تمضي لا مُلتفتاً لطريق العودة ِلا متجهاً لمكان , تمضي حتى تومض ُعينا قط ٍّ في العتمة )) , تلك هي ومضة الذكريات, وعندما يتذكر المحاسيب دراويشهم يتسائلون ((هل للنّور وزن أيّها الدّرويش؟ أجبني فأنا مازلتُ لليومِ أتذكّرُ قُبلتَكَ الخطيرة لي في الحديقة تحت فيء الشّجرة السرّيّة, قُبلةَ نَبيٍّ كانتْ, جاءت بعدها قُبْلةُ وَلِيّ , والوليُّ أكثر جُرأَةً من النبيِّ وتقاسيمُ النّايِ بين شفتيْكَ كانتْ شاهدةً على طَعْم السِّحْر بين شفتيَّ , سِحْر القُبْلة وسِحْر شجرة الدّفلى , والدّفلى عصايَ الّتي بها فرقتُ البحرَ, وعبرتُ إلى دار السّلام , أيبدأُ الطّريقُ بقُبلةٍ ؟ قُلْ لي أنت أيّها الدّرويشُ الكفيف , فأنا منذُ تلكَ القُبلة , وأنا أشربُ السُمَّ في كلّ شيءٍ , فالسمُّ للعاشقين يا صاحبي , والشّهدُ والخمرةُ واللّبن والحليب للرُّضَّع الطّامعين , فياحبيب الروح قل للمدى , كيف مات الورد واعتل الندى , ففي نهدي كفر وفي ترياقك هدى , زد لصلاة ركعا, وزد للقبل رطبا)).
الوطن كلمة تفجّر في أعماقنا ألاف الأحلام والذكريات والبطولات والتضحيات , حينما نقف عالقين في بلاد المنافي البعيدة أمام دنو شمس المغيب, ورغمّ الألم المحترق في شراييننا, رغمّ أحتلال الوطن الذي فتتنا في بعثرات الكون المنتشرة , إلا أنّ الحنين هو الأوكسجين الذي يطفئ دخان الظلام , وحرقة الأيام التي افتقدناها عنوة, وحين تتذكر ساجدة الموسوي مأساة الوطن تقول : ((كان العيش رغيدا, وكلام الناس بوقت الشاي كطعم السكر, في رمشة عين هبت ريح , فارتجفت أبواب البيت ,حط غراب فانكسر المصباح , الضوء تبعثر , ماذا حل بنا؟ من أي جهات الأرض تجيء الريح تهدأ حينا ثم تصبح غبراء وهوجاء غريب مسارها . (( وفي كلام العشاق ظلت تتذكر انه قال لها : أليس المنادى فى اللغة منصوبا ؟ فمالي كلما أناديك لا أشعر إلا بضمك؟ قرأت لكريمة الحسيني : (( تأخذني الذكرى لأنمو بين أناملك أزهارا برية ومواويل عشق وعناقيد عنب لم يدركها الخريف لنذوب سويا حبة حبة قطرة قطرة دون أن نُعيرَ اهتماما للزمن إن كان سيمنحنا بعض الوقت لنرسم للحب خاتمة جديدة)) . الحياة فيض من الذكريات تصب في بحر النسيان , وأنا مشكلتي الحقيقية ليست النسيان, مشكلتي كثرة الذكريات, وذكرياتنا إمّا لهيب يشتعل بالنفس نتمنى خموده أو إطفاءه, وإمّا نور نستضيء به في القادم من أيامنا, وإما زلزال يُحطّم نفوسنا ولا نستريح معه,لقد ذهب ولن يعود زمن الطيبين وبقيت أحلى ذكرياته في خواطرنا تدغدغ مشاعرنا, تضحكنا حيناً وتعصر قلوبنا حيناً آخر, يا أيام زمان مررت بسرعة كالبرق, ترى هل ترجع الذكريات ونعيدُ ترميم ماضينا الجميل؟ ومن سيعيدها لنا؟ وهل تبقى عالقة في مخيلتِنا رغمّ تباعد الأيام وازدحامها ؟ ربما الأحاسيس والمشاعر هي التي ما زالت تؤمن بالذكريات, باسترجاعِ اللحظات, حين يغفو العقل بعيدا عن الواقع, حين يعاود رسمها بفرشاةٍ سحريةٍ غالبا ما تختفي, ويغادرنا العقل الباطن على عجلٍ حين يقاطعنا صوت الكون الواقعيّ, رغمّ الألم الذي يعتصر في داخلنا ويرتطّم, قد يضجّ العقل بالماضي , ويحاول أن يلتصق بالأحلام المقتولة على ضاحياتِ الزمن المرّ, هذا الإعصار الهائج أحيانا يُفقدنا السيطرة على أعماقنا, ويشلُّ أحيانا أخرى حركتنا الطبيعيّة, لنجد أننّا نفقد الحياة الحاضرة ولا نجيد التأقلم مع أحداثِها, ونبقى غائبون في زمنٍ قد انتهى , لكنّ طياته كانت بالنسبة لنا الأمل والجمال والحياة التي بنت مواقفنا. نختم مع ذِكرَياتٌ أم كلثوم الذي لازالت أصداء لحنها تنساب بعذوبة مع خفقات القلوب :
((ذِكرَياتٌ عَبَرَتْ أُفقَ خيالي ....بارِقًا يلمَعُ في جُنحِ اللَّيالي
نبَّهَتْ قلبِيَ مِن غَفْوَتِهِ .........وجَلَتْ لي سِتْرَ أيَّامي الخَوالي
كيفَ أنساها وقلبِي ....لَمْ يَزَلْ يسكُنُ جَنْبِي إنَّها قصَّةُ حُبِّي)).
إرسال تعليق