‎عن محاولة اغتيال ترمب: سوسيولوجيا صراع السلطة الاستراتيجية والتيارات الفكرية المتطرفة داخل أمريكا؟

مشاهدات






بقلم: أستاذ الفكر السياسي

الدكتور: أنمار نزار الدروبي



كثيرا ما تستعمل كلمة استراتيجية بالإشارة إلى خطة أو نهج ثابت في السياسة. وأحيانا تُطلق على أي شيء يمثل قيمة حيويّة ذا أهميّة كبرى، أمّا جذور المصطلح فهي تخصّ الجيوش بنحو نظامها ومنهجها الأساسي في الحرب وتحقيق الأهداف والانتصارات. مع أن تشعّب النظريات أدى إلى إفراد علم خاص في الاستراتيجيات لتشمل جوانب متعددة مثل الاقتصاد وإدارة الأعمال وغيرها.

لا نريد التكهن بالنتائج فالسياسة علم معقد يستند إلى معادلات معقدة ومتغيرات وحسابات اختزال تاريخي وحتى فرضيات جبرية، وأعني هنا بالتحدي محاولة اغتيال ترمب، لاسيما أن أخطر ما تمثله رؤوس زعماء الولايات المتحدة الأمريكية هو خزينها السري للمعلومات. البعض يرى أنه لم تعد هناك قيمة للأيديولوجيات، فالصراع اليوم اقتصادي، على سبيل المثال لا الحصر، هناك تحالف دولي بين روسيا والصين ومجموعة البركس (BRICS)، وهي مجموعة الدول الخمسة الأكثر نمو اقتصاديا بالعالم (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا) التي تحاول كسر الاحتكار الأمريكي الغربي للاقتصاد العالمي. لكن تبقى العقائد والأفكار والأيديولوجيات هي المسيرة للنظام السياسي الدولي بصورة عامة.

أما مفهوم السلطة الاستراتيجية:

يتصور بعض الناس البسطاء أن الفكر المتطرف والعنف، والجماعات الراديكالية أيا كانت سواء، الإسلامية والمسيحية وغيرها من الجماعات المتطرفة هي أفكار لها علاقة بدين معين أو تأويل ديني معين وأنها تظهر بالصدفة، تخرج من بطون الكتب لوحدها دون سابق إنذار وتصبح قضية عمومية بالصدفة. وهذا خطأ كبير يقع فيه الكثير، لأن هذه الأمور، على سبيل المثال لا الحصر، مثل فكرة (الجهاد) تظهر برغبة وإيعاز وتنظيم مما يسمى ب (السلطة الاستراتيجية) في أي دولة أو مجتمع. بمعنى فجأة تصبح فكرة الجهاد قضية مهمة جدا، وأن الذي يجاهد سوف يدخل الجنة، وأن الجهاد هو مقاتلة العدو، سيما أن العدو هو الكافر الذي لا يدين بدين الإسلام وبحسب رأي (السلطة الاستراتيجية) وفي حالة موت المجاهد يعتبر شهيد. الملاحظ أن دول عديدة في العالم العربي تسخر نفسها لهذا المفهوم، وليس الدول العربية فقط، وإنما هناك دول غربية (كافرة) بالمفهوم الذي يطرحه البعض أنها ستساعد (السلطة الاستراتيجية) وستضع لوجستيات وتنشأ مراكز أبحاث وتسخر منابر إعلامية كبيرة ومؤثرة لدعم فكرة (الجهاد) وستنصر هذه الدول الغربية كل من يريد الجهاد والذهاب إلى افغانستان لمقاتلة عدو أسمه الاتحاد السوفيتي مثلا. بالرغم من أن فكرة الجهاد موجودة في بطون كتب التراث، إلا أنها كفكرة لم تطرح قبل عشرة سنوات من قضية افغانستان.

إذن هي لحظة فارقة في مسلسل الانتخابات الأميركية: من هي الجهات المستفيدة على المستوى المحلي والدولي من اغتيال ترمب؟

الاحتمال الأول: على المستوى المحلي: سوسيولوجيا الصراع بين الأصولية البروتستانتية والأصولية الكاثوليكية وباقي التيارات الفكرية المتطرفة في أمريكا؟

يُعد كل من التيار المسيحي الأصولي، والمسيحية الصهيونية، والتيار المسيحي الليبرالي، والتيار العلماني من أبرز التيارات الفكرية في الولايات المتحدة الأمريكية. وربما كانت محاولة اغتيال ترمب من ضمن دائرة هذه الأفكار، مع العرض ممكن استبعاد اليمين المتطرف في التورط بمحاولة الاغتيال، لأن هذه التيار تحديدا قد شهد تصاعدا غير مسبوق واتساع نفوذه بشكل كبير في ظل إدارة حكم الرئيس دونالد ترمب.  ثم كانت احداث الساد س من يناير عام 2021 رمز ا لليمين المتطرف في الولايات المتحدة، عندما خرج أنصار هذا التيار ذلك اليوم في احتجاجات على ما ادعوه من سرقة الانتخابات. بالتالي، فإن هذه الأفكار التراثية يتم استدعائها من قبل (السلطة الاستراتيجية) وليس من قبل السلطة السياسية مفهوم السلطات التنفيذية، وهو ما شهدته الولايات المتحدة الأمريكية للعديد من محاولات الاغتيال التي تعرض لها بعض من الرؤساء منذ اغتيال الرئيس الأمريكي لينكولن عام 1865، واغتيال كيندي عام 1963، إضافة إلى عدد من محاولات الاغتيال الفاشلة التي نجى منها الرئيس روزفلت، والرئيس فورد عام 1975 وريغان وأوباما وغيرها.

بالرغم من أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية محصورة بين قطبي العملية السياسية (الحزب الجمهوري، الحزب الديمقراطي)، إلا أن الناخب الأمريكي حتى لو كان مستقلا، وتحديدا في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها الولايات المتحدة، يطالب الرئيس القادم في تحقيق، أو كيف سيتعامل مع بعض المسائل المصيرية بالنسبة للمجتمع الأمريكي بصورة عامة وأبرزها (الإجهاض، زواج مثلي الجنسية، الهجرة، الضرائب، الرعاية الصحية). وكما أن للمرشح الرئاسي ترمب أنصار ومؤيدين من الحزب الجمهوري، هناك من يعارض ترمب ويسعى بكل قوة لمنع وصوله إلى البيت الأبيض، وهم شخصيات سياسية وعسكرية لها ثقل وتأثير في صناعة القرار السياسي الأمريكي.

من هنا يمكن أن نحلل البعد السوسيولوجي لصراع هذه التيارات المتطرفة، وكيف انتشر هذا الفكر المتطرف لهذه الجماعات في المجتمع الأمريكي، من ثم سيطرت هذه الأفكار على القواعد الجماهيرية والقواعد الانتخابية وصولا إلى ممارسة العنف. أما التفاصيل فهي مسلسل طويل لبرامج ومشاريع ستستمر إلى ما لا نهاية، حيث سنشهد فصل جديد من فصول مثل هذه العمليات يجري تنفيذها وبحسب نظرية المؤامرة لأنها واقع تجسده جميع سجلات السياسة الأمريكية. هذا الواقع لا يستدعي أن نؤمن بالمؤامرة أو نستبعدها من عقولنا، لاسيما أن الولايات المتحدة الأمريكية دولة عريقة ولديها أرشيف من المعتكفات السريّة المقفلة. ومن الخطورة فتح بعض الأبواب السريّة لدهاليز تسمح بتحرر المعلومات المخابراتية. لنتفق على تجاوز لغة الألغاز ونذهب إلى مشهد تراجيدي قادم ستفوح منه روائح المؤامرة.

الاحتمال الثاني:

هناك من يرى أن عملية محاولة اغتيال ترمب مشهد هوليودي مثير على مسرح الواقع (أكشن)، على مسافة 140 متر وبمشهد مثير للسخرية أكثر من العجب ينبطح شاب في العشرين من عمره مسددا سلاح بندقية نحو رأس الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ليصيب أذنه برصاصة وأخرى لم تخترق الدرع الواقي لصدره! السخرية أن القاتل المتربص لم يكن متخفيا عن الأنظار أو أجهزة الحماية التي ترصد حتى الطيور في ساحة الحفل، وما يزيد الشكوك سرعة قتل المجرم وتباطؤ الإحاطة بالرئيس؟ لسنا في عرض التحقيق عن ملابسات الحادث المفضوح بكل حيثياته وهنالك سابقة اغتيال الرئيس كنيدي في ستينيات القرن الماضي.

الاحتمال الثالث: على المستوى الدولي:

مع التذكير بأن سلسلة الإقالات والتحقيقات لم تتوقف آبان تولى دونالد ترامب سدّة الرئاسة الأمريكية. أبرزها عندما أقال ترمب وزير خارجيته وتعين مدير CIA بديل عنه. هذا الحدث رغم أهميته السياسية عالميّا لم يأخذ حقه من التحليلات والسجالات الإعلامية. ثم تلاه حدث آخر قد استحوذ الاهتمام وشغل الساحة العالميّة يخص طرد مجموعة من الدبلوماسيين الروس الذين يعملون في بريطانيا، سبب ذلك استخدام روسيا للكيماوي المحرّم دوليا بقتل جاسوس مع ابنته في لندن، بالإضافة لحزمة عقوبات اقتصادية اتخذتها بريطانيا وأمريكا ضد روسيا وإدانة شاركت فيها ألمانيا وفرنسا. لا يفوتنا التنويه بأن هذه الدول الأربعة هي الكبار في حلف الأطلسي، ويستبعد أن تكون مواقفها غير مسبوقة بتنسيق بينها. والأرجح أن يكون هذا التصعيد ضد روسيا يجري وفق خطة سريّة تم وضعها من قبل حلف الأطلسي لتقويض طموحات الرئيس بوتين وتحجيم دوره.

وهناك من يرى أن إيران وراء محاولة الاغتيال الفاشلة، لكن ما هي التبعات التي من الممكن أن تلحق بدولة مثل إيران التي هددت بتصفية ترامب بعد قتل قاسم سليماني؟

وربما بالأيام القادمة سنسمع ونقرأ بعض التحليلات السياسية النشاز، حيث ستُشير أصابع اليد إلى أن منفذ العملية مسلما أو حتى عربيّا؟

بالتالي، من هو الذي يستطيع أن يغض بصره عن شبح الحرب الأهلية الطاحنة، ومن هي الجهات المستفيدة على المستوى المحلي والدولي؟

بلا شك أن تداعيات الحادث أكبر من وقعه سواء على مستوى سير الانتخابات الأميركية ونتائجها أو على أرض الواقع، هذا الحادث لن يمر مرور الكرام ويكاد أن يتحول الى حد مفصلي بين ما قبله وبعده. لاسيما أن الخطر الأكبر كان يمكن أن يكون في الزلزال الذي سيضرب الولايات المتحدة الأمريكية لو نجحت عملية الاغتيال.

كل هذا يقال بوضوح تحت الستار وبكامل الصراحة وتعقد عليه الصفقات وتبني استراتيجيات لمرحلة قادمة، الذي يجب أن نفهمه وحتى لا نلهث وراء الأخبار الكاذبة والأجندات الرخيصة هو، كل المعطيات بمختلف الفرضيات تشير الى حقيقة مفادها. لن تسمح أمريكا بأنهاء المشاكل على المستوى الدولي، بل هي التي تغذي جميع التناقضات في العالم.

 


 


تعليقات

أحدث أقدم