د.يحيى الكبيسي
يتميز مقتدى الصدر بأنه عصي على التحليل، ولا يمكن بسهولة توقع خطواته، فهو ينتقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بسلاسة ووفقا لقراءته الخاصة للوقائع ، أو حدسه الشخصي . ويفعل ذلك وهو مدرك أن جمهوره «العقائدي» سيطيعه ويدعمه مهما كان قراره . لكن الثابت الوحيد الذي لا يمكن الخطأ في قراءتنا لمسيرة الرجل هو أنه لا يتخلى عن «حصته» في السلطة، و«حصته» في السلاح بالتحديد، عبر ميليشيا «سرايا السلام» التي تأتمر بأمره عقائديا وعسكريا لأنهما الضمانة الوحيدة لتوفير الحصانة ، والحماية، وعوامل الاستمرار له ! في كل مواجهات مقتدى الصدر السابقة مع خصومه من السياسيين الشيعة، كانت إيران هي الطرف الذي يقوم بإيجاد تسوية لهذه المواجهات؛ ففي عام 2010 مثلا، تأخّر تشكيل الحكومة ستة أشهر كاملة بسبب رفض مقتدى الصدر ترشيح نوري المالكي رئيسا لمجلس الوزراء لولاية ثانية، قبل أن يتمكن الإيرانيون في نهاية الأمر من اقناعه، في مقابل صفقة رابحة حصل بموجبها على ضعف حصته من الوزارات. وفي عام 2018 تدخل الإيرانيون بقوة للوصول إلى اتفاق بين الصدر ومناوئيه، بعد الصراع المفتوح الذي حدث بين تحالفي الإصلاح الذي شكله الصدر (المدعوم أمريكيا) وبين تحالف البناء (المدعوم إيرانيا) للقبول بمرشح تسوية لرئاسة مجلس الوزراء، وهو ما أفضى إلى تشكيل وزارة عادل عبد المهدي . وقد حضر الإيرانيون بقوة، أيضا، في التسوية التي تحققت بين الصدر وخصومه بعد استقالة وزارة عادل عبد المهدي في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 ، للوصول إلى مرشح تسوية هو السيد مصطفى الكاظمي .
لكن الأمر اختلف تماما بعد الانتخابات المبكرة التي جرت عام 2021، والتي انتهت بفوز كبير للصدريين، بعد حصولهم على 73 مقعدا (ما نسبته 22.1٪ من مقاعد مجلس النواب). فهذا الفوز جعله يتمرد مرة أخرى على القرار الإيراني (المرة الأولى كانت في العام 2012 عندما تحالف مع القائمة العراقية ومسعود البارزاني لإسقاط حكومة نوري المالكي) وبذلك فقد الإيرانيون موقعهم التقليدي بوصفهم مظلة تحاول «احتواء» جميع القوى السياسية الشيعية، كما كان عليه الأمر دائما، بل تحولوا إلى طرف يتبنى، علنا، موقف الإطار التنسيقي المناوئ للصدر دون مواربة! من هنا، سعى مقتدى الصدر، مستثمرا لفوزه، ليس إلى الخروج من العباءة الإيرانية وحسب، بل لاحتكار التمثيل الشيعي، وذلك من خلال طرحه فكرة التخلي عن نظام التمثيل النسبي الواسع، الذي تشكلت بموجبه الحكومات السابقة، والذهاب إلى نظام تمثيل نسبي محدود لا يضم الجميع لتشكيل الحكومة (أطلق عليها الصدر، حينها، توصيف حكومة أغلبية سياسية) مع ضمان تمثيل الهويات المختلفة فيها. وبالفعل نجح الصدر في تشكيل هكذا التحالف، ضم الى جانبه كلا من تحالف السيادة السني، والحزب الديمقراطي الكردستاني، فضلا عن بعض المستقلين . لكن قرارا للمحكمة الاتحادية العليا، المعروفة بعدم مهنيتها وخضوعها لإرادة الفاعلين السياسيين، أفشل هذا المسعى. فقد قضت أن جلسة انتخاب رئيس الجمهورية يجب أن يكون نصابها ثلثي عدد أعضاء مجلس النواب (أي 221 نائبا) ولم يكن هذا متاحا بعد أن استطاع تحالف «الإطار التنسيقي» الحليف لإيران، أن يجمع أكثر من 110 مقاعد، وبذلك منع تحقيق النصاب المطلوب لعقد جلسة لانتخاب رئيس الجمهورية .
هذا الفشل دفع الصدر للقيام بخطوة مفاجئة بتوجيه نوابه لتقديم استقالاتهم الجماعية من مجلس النواب بتاريخ 12 تموز/ يوليو 2022، وهو ما أتاح لمناوئيه في الإطار التنسيقي، أن يفرضوا هيمنتهم الكاملة على مجلس النواب . وقد ظل التيار الصدري متربصا خلال المرحلة التي أعقبت تشكيل حكومة الإطار التنسيقي، دون أن يقوم بخطوة تصعيدية. لكن الأشهر الأخير شهدت بضعة تحركات لمقتدى الصدر لا يمكن فهمها إلا على أنها تشكل مقدمة ليس للعودة إلى المشهد السياسي مرة أخرى، بل محاولة لاحتكار التمثيل الشيعي «الوطني» أيضا!
التحرك الأول كان زيارة سريعة قام بها إلى المرجع الأعلى السيد علي السيستاني في 18 آذار/ مارس، الذي يرفض استقبال السياسيين منذ سنوات، وهذا يحمل رمزية لا يمكن تخطيها.
التحرك الثاني جاء يوم 11 نيسان/ أبريل حين ألقى كلمة في ذكرى اغتيال
والده، طالب فيها تياره بالوحدة فيما بينهم بوصفهم «التيار الوطني الشيعي»
وليس «مع الآخرين الفاسدين»!
التحرك الثالث كان دعوته المفاجئة إلى جعل «عيد الغدير» عطلة رسمية في بيان
مكتوب نشر يوم الجمعة 19 نيسان/ أبريل؛ أي بعد أسبوع واحد من الكلمة
السابقة .
وعيد الغدير مناسبة شيعية تتعلق بسردية شيعية مفادها أن الرسول محمد قد أوصى لعلي بالولاية/ الإمامة من بعده، وهو ما لا تعترف به السردية السنية، بل ترفضها تماما. والشيعة الإمامية الإثنا عشرية يعدّون الإمامة من أصول الدين، وكانت المدونات الشيعية التراثية تتضمن تكفيرا صريحا أو لمنكرها.التحرك الرابع هي مطالبته في تغريدة له على منصة إكس نشرت بتاريخ 28 أيار/ مايو 2024، بطرد السفيرة الأمريكية من العراق، وغلق السفارة بالطرق الدبلوماسية المعمول بها دون إراقة دم كما قال! إن القراءة الدقيقة لهذه التحركات الأربعة، تكشف أنها تأتي في سياق منهجي لتسويق فكرة أساسية هي أن التيار الصدري، الذي أصبح اسمه التيار الوطني الشيعي، هو الممثل الحقيقي الوحيد للشيعة في العراق، وأنه وحده المرضي عنه من قبل السيد السيستاني، وأنه وحده الذي يدافع عن المذهب وطقوسه، وبالتالي هو يمثل التشيع النقي في مقابل التشيع غير النقي الذي يمثله الآخرون، وأنه يمثل التشيع الوطني في مقابل التشيع غير الوطني الذي يمثله الإطار التنسيقي. وهذه ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها مقتدى الصدر الى استخدام الخطاب الطائفي الصريح، ففي سياق انقلابه على الحركة الاحتجاجية التي اندلعت في العراق في تشرين الأول عام 2019، نشر تغريدة على منصة تويتر دعا فيها إلى «إعادة ترميم البيت الشيعي» ليس سياسيا فقط، بل مذهبيا أيضا عبر «ميثاق شرف عقائدي». يومها وقع بيانه لأول مرة باسم «الإمامي الإثنا عشري». ولكن المختلف هذه المرة أنه لم يعد يؤمن، على الأقل في هذه اللحظة، ببيت شيعي يضم الجميع، بل ببيت شيعي نقي يضم تياره «الوطني» الشيعي فقط!
إرسال تعليق