مقامة الحروب 2 :

مشاهدات

 

 


صباح الزهيري


يقول إيريك ريمارك : ((كل القنابل والانفجارات الأولى تفجرت في قلوبنا )) , الحرب ظاهرة مدمرة ظلت ملازمة للنشاط ألأنساني منذ بدء الوجود, وقديمة قدم الخليقة , ومن تفاصيلها نرى هناك هوة بين مَن يحاربون ومَن يقررون . تشي الطبيعة الإنسانية بأن تلك الآلية البشعة التي تدعى الحرب ليست مجرد اختيار خارج عن إرادة القائد يضطر إليه كحل أخير, وإنما هي جزء من الطبيعة الإنسانية , وليس أدل على ذلك من تطوير أدوات الحرب مع التقدم التكنولوجي والحضاري , بيد أن المنطق يقول إن الارتقاء الإنساني يفترض أن يصحبه انقراض الأدوات العنيفة للصراع .

 

يذكرنا مقال المندلاوي الجميل بفيلم "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" (All Quiet on the Western Front) الذي نال أربع جوائز أوسكار عن أفضل تصوير سينمائي وموسيقى تصويرية وتصميم إنتاج , وتدور أحداثه حول مراهقين تطوعا للانضمام إلى الجيش الألماني , راكبين موجة من الحماسة الوطنية سرعان ما تبددت بمجرد مواجهة الحقائق الوحشية للحياة على الجبهة ,حيث نشاهد كيف يُخيِّم السكون على الضفة الغربية لألمانيا, ويسكن الموت أجساد الجنود الهامدة, مطاردا الأحياء منهم بلا هوادة , في لقطة تتمثل فيها الجثث من بعيد كمنحوتة أحفورية لتاريخ من الحروب المتعاقبة , يوجز المخرج إحدى الثيمات الرئيسية لقصته في عنصر واحد فقط وهو معطف , نبصر في بداية الفيلم جنودا موتى يتجردون من معاطفهم وأحذيتهم الدامية , ليعاد تدويرها وتقديمها للمجندين الجدد , يصوب المخرج تركيزه على تفصيلة كتلك , ينتبه إليها بطل فيلمه ويشير إلى اسم علق في السترة المقدمة إليه فيمزقه الضابط ويلقيه جانبا , تلك تفصيلة تمنحنا منظورا أشمل عن الحرب , حيث يسقط الإنسان من الحسابات وتتبدل الوجوه والأسماء وتُتوارث المعاطف. 

 

في إحدى اللقطات نلمح وجه بطل الفيلم ( باول ) وهو مراهق لم يتجاوز بعد سن الطفولة حسب القانون , التحق بالجيش قبل أن يتم أعوامه الـ18 الأولى بعد أن زور تاريخ ميلاده من شدة الحماس للحاق بالحرب , يكتشف كل أسباب الموت من الرصاص والشظايا , والإحراق بالنار, والإجهاد , وتصدمه إصابات الرأس والصدر التي تودي بزملائه وأعدائه -على حد سواء- إلى الموت , نراه ملطخا بالوحل , حد طمس نصف ملامحه , ليكون الوحل في حد ذاته هنا على وجهه كناية عن فقدانه لإنسانيته , يندفع لقتل جندي فرنسي بعدة طعنات , وبعد دقائق يقترب من عدوه الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة فاحصا جيوب سترته , ليجد صورة لزوجتة وابنه ورسائل ووثائق , لتتضح الرؤية لباول بعد أن كانت غائبة عنه , فالهدف الذي لطالما صوَّب نحوه فوهة البندقية ما هو سوى إنسان حقيقي مثله يحتضر بين يديه, فيدفعه الرعب إلى التساؤل عن الأسباب , وعن ذلك الآخر الذي ينبغي إبادته , وكيف يكون , ليكتشف أن العدو هو (الحرب) نفسها , وليعلق إيريك ريمارك : ((نرى ذلك متأخرين جدا, لِمَ لم يخبروننا أبدا أنكم مساكين مثلنا , أن أمهاتكم يتملّكهن القلق كأمهاتنا , وأننا نملك الخوف ذاته من الموت )) .لاأذكر في شعرنا العربي القديم ما قبل الإسلام الأبيات الثلاثة التالية لأمريء القيس التي يمكن عدها قصيدة مكتملة ومتماسكة في تعبيرها عن كراهة الحرب :

 

((الحربُ أوَّل ما تكونُ فتيَّة ....تسعى بزينتِها لكل جَهولِ

حتَّى إذا استعرت وشبَّ ضِرامها ...عادت عجوزاً غيرَ ذاتِ خليلِ

شمطاءَ جزت رأْسَها وتنكرت مكروهة للشمِّ والتقبيلِ )) .

تعليقات

أحدث أقدم