مقامة الشوارد :

مشاهدات



صباح الزهيري 

 


شوارد ابن معصوم الليلية منقوعة على عزف منفرد :

في تلك الليالي التي كتمت , حيث الحروف بلون قوس قزح , يحتسي النديم عشقه انثيالات قصائد , ويظل قابعا في ظلها العاشق ويتمترس بجرعات خلف المسامات , عله ينثر بعضها , فيشجي أنينا بصوته الحزين , ويشدو بمقام ألأوج كل ضياعات ألأماني الناشبة في الروح . 

 

لازال يدندن بقصيدة ابن معصوم الضادية : 

(سيّان خمرتُه وَريقتُه , كلتاهما عنبيَّةٌ مَحضُ) ,

وعندما يُشرقُ من بَيْنِ الغيومِ متسللا وجهُ الحبيب, تشهقُ نونُ النِّسوَة وتَفُكُّ ضَفيرَتَيْها تاءُ التَّأْنيثِ , ويظل يجوْلَ حول أسْوارِ اللغةِ مرَّةً , ومرَّة , ويعكف على الدوران إلى أنْ تسقطَ أسوارُ المُفْرَدَة ويبتدئُ رحلته عبرَ فيضِ النُّورِ, فيفك يقين السريرة .

 

في (أدب الشراب اذا المدامة عربدت) , هاهو يتظاهر بالفقدان , ويصرخ :  مرحى لحروف كانت نعم المواسي , حرف يربت على الكتف , وآخر يكفكف الدمع , وحين يشتد الحصار, يحلّق في سماء الخيبات بساط ريح تنسجه حروف بيضاء اتقنت دور المسعف لحالات وإن بدت مستعصيه , وبعيون مغرورقة , وفم مشدوه , وبذهن شارد يحاول أن يشهق لكن أنّى له وقد احتبست الفضاءات , وهو لازال ملتزما أدب الشراب , آه أيتها الأنفاس المستباحة .  (تُدمي اللواحظُ خدَّه نَظَراً فاللَحظُ في وَجناته عضُّ ) , وعندما ينتشي بالأحتساء , يجد على الشفتين دندنة ابتسامة , وليدة التورد كفجر ربيعي , فيلقي دهشته فوق مرايا الليل , الذي لم تجف أحلامه بعد , ويصيح بطور الصبي , فيجهد الليل الذي كان يلوذ  برحابه , ويهرب من تفاصيل يومه ومن لَكنة دمه , ويبقى الهجر شاخصا كالظل , فيصعد ملتاعا بالمقام : لتكن في راحة اليد قطرة مطر, تبحث عن هِبة الشمس لحبات الضوء , فتتمخض عن قوس قزح يشبه من أحتواه العقل والبال . (باتَ النَدامى لا حراكَ بهم إِلّا كَما يتحرَّك النبضُ ) , ليجد نفسه وحيدا في مونولوج الشراب , يقول : لك أن تدجن وتحول الحرف بفكرتك النقية الى قصيدة بخمسة حواس , وعندما تنفلت في سرب الليل , ينصت إلى دبيب تفاصيلها , فتمتشقه كملائكة السماء صوب سدرة المنتهى , فيرد على نفسه : هو الوحي الذي تتبتل الذاكرة به , فأحظى بملائكة الحرف والصلاة ,فلا تدع سحابة الظنون , متيمة بك وخليقة برياح الشك , فيقول : أقسم سأعلنك تميمة وجد , وأجعل ألحانك ترتلني كلما تنفسك صدري .

 

(لا تُنكِروا لَهوي على كِبَر, فعليَّ من زمنِ الصِبا قَرضُ ) , آخ , آخ , وما قبل الفقدان , يجد نفسه في زمنُ الْحُبِّ الْأُونْ لَايْنِيِّ , ويقفَ الغيّابُ كَعصابةٍ مُدجّجةٍ بِالنّسْيانِ , بيْنَمَا الْقمرُ يرْسمُ علَى خدِّ اللّيْلِ قُبْلةً باردةً منْ شمْسٍ , سافرَتْ دونَ أنْ تنْتهيَ منْ لمْلمةِ أشعّتِهَا علَى كتفِ الْغروبِ , ويتذكر كيف كان يرْسم قمراً حينَ تعانقَتْ الحواجبُ , وكيف بات عاشقا نسيَ القلْب تحْتَ وسادةٍ , ونامَ فِي زمنِ ليْسَ لهُ فيهِ بطاقةٌ أوْ هوّيةٌ , يجْهل أنَّهُ سجّلَهُ علَى جدارِ الْعاشقِينَ ,  فيصرخ بصيحة البنجكاه : ( أيُّها الْبعيدُ خارجِي الْقريبُ داخلِي , تنامُ فِي كفِّي كَزهْرةِ لَيْلَكٍ , تمْنحُنِي عطْرَهَا ولَا تصْحُو, وعلَى لمْسةِ ضَوْءٍ تلوّحْ لِي أنْ آتيَ دونَ قفّازاتٍ كيْ تمُصَّ أصابعِي بعضٌ منْ حنينٍ) . (أما الصبوح فأنه فرض) , وفي التغميضة تجيد أنامله العزف على شغاف القلوب , فيرتل الاسماء على نغم مقام اللامي فيغدو كترنيمة قداس , تخضر لها جدب القلوب , فينكشف حجاب الروح , ليشاهد شالٌ من العشقِ يبثُ سلاماً , يَلفُّه رُويداً رُويدا , وينصت , يا بَقائِي , يا فَنائِي مِن ِشَراييني سَأنسجُ لك الحرير, أرويك من قطرِ الماءِ ونسيم الصَّباح زهرةُ كريستال ممهورةً بِلَمسِ الفَرَاش أرسُمُها لتلك الشفاه.


تعليقات

أحدث أقدم