ضرغام الدباغ
خلال دراستي الفلسفة في جامعة دمشق، كلية الآداب بين 1970 /1974، تعرفت على عدد من أساتذة الفلسفة ومنهم : أستاذ الفلسفة الكبير الدكتور نايف بلوز، والاستاذ الدكتور الطيب تيزيني، والدكتور خضر زكريا، والأستاذ الدكتور أسعد عربي درقاوي، وغيرهم من الأساتذة الاجلاء . وبسرور اعترف بسرور أن هؤلاء الكبار تركوا بصماتهم في شخصيتي العلمية وميلي للبحث والتعليم ، ودراسة اللغات . ومن بين ما تعرفت عليه من خلال صداقتي للدكتور بلوز، أنه لم يكن يضع التلفاز في بيته ، ولما سألته عن السبب، أدهشني بإجابته، أن التلفاز يلحق الضرر بوعي الإنسان وذكاءه . وحقاً عندما تأملت عميقاً في فكرة الدكتور بلوز، وجدت أنه على حق أنك، فعندما تسمع خبراً عن حادثة ما، فأنك سوف تتخيل الحدث وصوره ، وقد تكون هذه الصورة قريبة أو بعيدة لما سمعته من الخبر، وفقاً لتفصيلات الخبر ووصف أحداثه ، أو وفق معرفتك للمكان أو الاشخاص، ويتم عقلك ما لا تراه عينك فتجتهد لاستكمال الصورة وفي ذلك رياضة عقلية كبيرة وفي تواصلها تخلق في فكرك قابليات عظيمة ونشاطاً ذهنياً سينعكس على اصعدة عديدة ثقافياً وفنياً . وعلى هذا الاتجاه ، نجد أن خيال الفنانين (رسامين، وموسيقيين) في العصور الحديثة، والأمر مرتبط بصورة موضوعية بالتطور في عالم الإعلام المرئي بصفة خاصة يتقلص بدرجة كبيرة، فالإعلام الحديث ينقل لك بالصورة والصوت أحداثاً عجيبة وفي أوقات كثيرة في لحظة حدوثها وهكذا صار بوسع البشر على اطلاع كامل وتفصيلي بحياة من يقاسمنا الحياة من الحيوانات في البر والبحر والجو، والكاميرات المنتشرة في كل مكان، في الشوارع والساحات وحتى في المصاعد، ويمثل هذا تطفلاً صارخاً في حياة البشر لا تدع لك مجالاً لأن تفكر وتتصور، وتدخل يقمع أي محاولة فكرية / ذهنية .
فكرت في هذا الامر كثيراً، وبلغت توصلات مدهشة، أليس من الغريب أن تكون الرواية المطبوعة على الورق أقوى من السينما ..؟ رغم أن السينما تعني مناظر ملون وموسيقى وحركة .. أليس من الغريب أن الفلم السينمائي يسيء إلى الروايات العظيمة، والمخرجين مهما كانوا ممتازين ورائعين، كالمخرج فرانسيس كوبولا الذي قدم أفلاماً جيدة ولكنه لم يتمكن من بلوغ جوهر رواية العراب ، لماريو بوزو، بل وهناك أعمال روائية عظيمة أساءت لها السينما، كرواية الساعة الخامسة والعشرين للكاتب الروماني كونستانتان جورجيو، رغم أن عملاقاً كأنتوني كوين قام ببطولة الفلم . والسينما اليوم هي غير سينما الثلاثينات والاربعينات وحتى الستينات والسبعينات، رغم أن عالم التقنيات السينمائية قدم تكنلوجيا مذهلة في تطورها، ولكن مع ذلك لم تنجح في تقديم أفلام (وخاصة في عالم الدراما) وشخصياً شاهدت فلم مأساة السفينة تايتانيك في مطلع الخمسينات بالاسود والأبيض (بلغت تكلفة إنتاج الفيلم حوالي 1,805,000 دولار (أقل من مليونين) بينما حقق أرباحا تقدر بـ 2,250,000 مليونان ونصف دولار) من تمثيل انغريد برغمان، كان فلماً رائعاً لدرجة أني لم أنساه حتى اليوم، أفضل بكثير من الفلم الحديث الذي استخدمت فيه تقنيات مذهلة وكلف 200 مليون دولار، وحصد أرباحاً قدرت بأكثر من 2 مليار دولار . وتقدم السينما اليوم موجات تسونامي من الأفلام السخيفة والتافهة (أفلام الجنس والجريمة واستعراض للقوة) صار علماء الاجتماع في الدول المتقدمة يشكون منها علانية على أنها تدمر أخلاق الشباب واذواقهم ، وهذا التوجه في الأفلام الخرافية التي تعتمد مبدأ البطل (Supermann)، ويجري تشجيع كل أتجاه عبثي عدا التوجه الجاد المسؤول، فهذا يخرج اللعبة عن إطارها المرسوم ويضعها في مسارات قد تحمل آفاقاً تنطوي على الخطورة . والأمر له انعكاسات أخرى، يلاحظ أن أوربا لم تعد تقدم أعمالاً موسيقية فاخرة أو عميقة المضمون، العالم الرأسمالي بات يريد أعمالاً خفيفة سريعة والجمهور بدأ يفقد المستوى الراقي في الذوق، ويرضى بموسيقى الصخب انسجاماً مع تصاعد موجة تناول الكحول والمخدرات، والانحلال في كافة مفاصل المجتمع ، فانبثقت هموم ومشكلات، لا تدع الوقت والمزاج لتلقي الفن الرفيع . نعم هي لم تنتهي كلياً ولكنها تراجعت بدرجة ملحوظة .
من هنا وبما له علاقة بالموضوع ، فإن مراقبة التلفاز صار يعتبر ضرباً من مضيعة للوقت، وليس بوسع المثقف أو من يبحث عن مصادر الثقافة أن يعتبر التلفاز مصدراً من مصادرها، بل أن التلفاز ساهم بتسطيح الثقافة ، الكتاب يبقى المصدر المهم ، ومقاعد الدراسة الجادة، والمجلات الرصينة وهي ليست كثيرة، وتجدر الإشارة أن الكتاب والمجلات المطبوعة، تعيش اليوم حالة تراجع، أو ربما حالة احتضار بطيئة، بسبب الغزو الشامل للانترنيت والاستخدام الواسع النطاق للكمبيوتر بأحجامه المختلفة، فأصبحت الصحف والمجلات تصدر على الهواء (On line) ويمكن تصفحها على الانترنيت، وطباعة (صارت أسهل من شربة قدح ماء)ما يشاء القارئ، بما في ذلك الكتب، ولكن ما زالت حقوق النشر القاسية التي تحرص عليها الدول الأوربية (بدرجات متفاوتة من القوة) تشكل عائقاُ بحجم معين . ولكن بصفة عامة الطبع صار سهلاً للغاية . والارشفة والتخزين، وكل ما له علاقة بالمصدر . وصناعة الكومبيوتر نفسه يتطور بسرعة، يكاد أن يكون بإيقاع يومي، بحيث يقدم خدمات ممتازة، بل مذهلة، ويقلص بدرجة كبيرة أهمية التلفاز ناهيك عن جهاز الفيديو الذي لم يعد له مغزى كبير وهكذا فإن الوسائط الثقافية تتطور بسرعة، وبأتجاهات التبسيط وبمحصلة مؤسفة أن الثقافة لدى الشباب تتراجع، وتقلص مساحة الثقافة الرصينة في السينما، لتحل محلها الأفلام التي تعتمد على الإثارة، وتراجع المسرح الجاد، أما حالة المطبوع (الكتاب) فيزداد بؤساً على بؤس. من واجب المؤسسات التي تعنى بالثقافة في بلداننا، أن تدرس هذه الظاهرة بعمق وبواقعية. ولا تسمح بانتقال ما يدور في المجتمعات الرأسمالية إلى بلداننا عشوائياً، وتعمل على تطوير الوسائل الثقافية بعد دراسة علمية يشارك بها خبراء، فما لفائدة من عشرات القنوات التلفازية تقدم مواد غير مفيدة، وكل واحدة منها تجر المتلقي صوب ما تريد من توجيه اجتماعي / سياسي / ثقافي، لتساهم في الأخير في زيادة التوسيع في شروخ المجتمع ، نهائيا سوف لن نتمكن من حجب بعض الآثار السلبية، ولكن بشط قبول للأفكار والاعمال ذات المنحى الإيجابي، نهائيا لا يمككنا عزل مجتمعاتنا عن العالم الخارجي، ولكن ليس كل العالم الخارجي الغرب .. هناك عوالم أخرى، ومهن مسارب علينا أن نجدها. وقبول رياح التطور تحت السيطرة،، فهي أفضل من أعاصير النخلف وآثارها المدمرة. وأفضل من التعصب والتطرف. انتبهوا ... ليس كل ما يدور في الغرب صالحاً للاقتباس..علماءهم ومثقفيهم يشكون من الانحطاط ...
إرسال تعليق