مشاهدات
نشر الدكتور ظاهر شوكت قصة قصيرة اسمها (( فن المسخ في بلادي )) , عن شخص ذو فجيعة كونه أصبح ممسوخا بظهور قرنين في رأسه , نتيجة تنازلات قدمها بعد ان فشل بالصمود , وبالتالي شعوره بالعار بسبب سقوطه , ورغم انه اصبح رجلا مهما ألا انه يجد صعوبة في تقبل وتفهم وضعه الجديد . ذكرتني عبارة المسخ بحوار جرى بيني وبين سفيرنا في كينيا الدكتور زيد حيدر عام 1985 , حيث كنت اعمل معه سكرتيرا ثالثا في السفارة , وكان السفير قد لاحظ رغبتي الشديدة في ألترجمة الفورية من والى اللغة ألأنجليزية , وليرشدني كيفية التخلص من المواقف المحرجة عندما يتطلب ألأمر ترجمة كلمة لا أعرفها , فقال لي (( أخلق الكلمة بنفسك )) , وليعطيني مثالا سألني عن ترجمة كلمة ( يمسخ ) , فأجبته انها لم تمر بي , فقال : (( أستخدم الفعل (يشخص) وأنفيها ستحصل على كلمة يمسخ , بأن تدخل (de) على الفعل ( personalize) , فتقول ( depersonalize) لتحصل على معنى الفعل يمسخ , علما ان المسخ بالإنجليزية (monstrosity أو metamorphosis) . تنسجم قصة الدكتور ظاهر شوكت مع كتابات فرانز كافكا وعالمه السوداوي , خصوصا روايته (المسخ أو التَّحَوُّل أو الانمساخ ) , وهي رواية قصيرة كتبها الروائي الألماني , نُشرت لأول مرة عام 1915 , وهي من أشهر أعمال القرن العشرين وأكثرها تأثيرًا , حيث تتم دراستها في العديد من الجامعات والكليًات في العالم الغربي , وقد وصفها الكاتب البلغاري إلياس كانيتي بكونها أحد الأعمال القليلة الرائعة , وأحد أفضل أعمال الخيال الشعري المكتوبة في القرن العشرين . تبدأ القصة بتاجر مسافر اسمه جريغور سامسا, الذي يستيقظ ليجد نفسه قد تحوّل إلى حشرة بشعة , في السطر الأول من التحول يصدم كافكا القارئ بهذا التحول الرهيب حيث يقول :
(( استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة , فوجد نفسه قد تحول في فراشِه إلى حشرة هائلة الحجم )) , جريجور هذا العامل البسيط ، البائس بوظيفته التي تجبره على الاستيقاظ مبكراً ليلحق بقطاراته كي يجوب المدن بائعاً متجولاً , في شقاء يومي متكرر , بالكاد يحقق له دخلاً يستطيع به أن يعول أسرته , ويجري كافكا هذا الحدث غير الواقعي , وغير محتمل الوقوع في مجاري واقعية تماماً , موهماً القارئ بصدق هذا الكابوس , والذي تمنَّى جريجور/ المتحول أن يكون هذا مجرد حلماً مزعجاً سرعان ما يستيقظ منه , لكنه أيقن بتوالي الأحداث استحالة أمنياته , عندما ترتعش أطرافه المفصلية الحشرية في محاولاته اليائسة للنهوض من فراشه حيث تسبب له الألم , وعندما يضطر للرد علي أسرته القلقة بسبب تأخره في النوم على حالته الجديدة , ويصافح مسمعيه هذا الصوت الرفيع الغريب الذي هو بالتأكيد صوته غير البشري , ولا تقتصر مأساة هذا البائس فيما بعد في عجزه عن المواءمة مع هذا التحول القدري , بل تتعداه إلى موقف الأسرة السلبي منه ـ فيما عدا أخته التي كانت تؤثره في محنته ـ حين تبتعد عنه مع مرور الوقت وتفاقم أزمته الوجودية , ثم هي تدفعه للاختفاء بعيداً عن الأعين , ثم وهي تبلور مشاعرها لمشاعر باردة وغير إنسانية بالمرَّة , برغبة جماعية في التخلص منه , حتى ولو كان الثمن هو الموت , فالارتباط المادي الذي يربطهم به قد انقطع صبيحة التحول الحشري مع توقفه عن العمل , بالفعل يموت جريجور , ماذا يمكنه أن يفعل غير الموت ؟ بعد أن أرهق كافكا القارئ بالتفصيلات الحياتية اليومية الكابوسية , التي تؤكد أن مجرد البقاء على هذه الصورة أمراً مرعباً وغير محتمل , وأن الانتحار هو الحل الوحيد الممكن . يقول روجيه جارودي عن كافكا وعالمه السوداوي أنه خلق هذا العالم بمواد عالمنا مع إعادة ترتيبها وفقاً لقوانين أخرى تماماً كما فعل الرسامون التكعيبيون في نفس الفترة , وتنتمي المسخ إلى المذهب العبثي في الأدب , وتعالج موضوعات مرتبطة بالحداثة كالاغتراب الذي يعد من أهم سمات المجتمع الحديث الرأسمالي , ويذكر كتاب الاغتراب الكافكاوي لآبراهيم محمود : ((إنّ المرء هو مغترب كيف كان اختياره , فالخضوع للقوانين غير الأخلاقية يعني طلاق كل ما هوإنساني فيه , وعدم الخضوع يعني الفناء , وهذا ما حدث مع جريغور سامسا , كيف صار مسخاً ؟ لأنه حاول الخروج عن عن القانون الذي يقتل فيه انسانيته في مجتمع مرعب )). يقول محمود درويش : ((إني خُلقتُ على صورةِ الله/ ثمّ مُسختُ إلى كائنٍ لُغويّ)) , ويقول فراس حج محمد : ((ليَ النّزقُ الطّويلُ العمرِ, اللغةُ السّوداء , سحابة الشُّؤمِ الحفرةُ الغائرةْ , ولغيري الفكر والتّبجيلُ والمهجةُ الرّاضيةْ , واللّغة النّشوى وأعياد الهوى , وأزهار الرّبيعْ , والشّهوةُ النّاضجة , ومقعد عشـقٍ يُعتلى في الصّهوة الجامحةْ , لم يبقَ منّي غيرُ مسخٍ لغويّ , ظلّ قصيدةٍ في مُسوحٍ بالية)) .
إرسال تعليق