ضرغام الدباغ
قرأت أن الرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دافنشي حين أراد رسم حادثة العشاء الأخير (عشاء عيد الفصح التقليدي) التي تناوله السيد المسيح مع حواريه، وكانت اللوحات الكبيرة الحجم والمضمون تستغرق فترة طويلة في إنجازها، وربما تأخذ سنوات عديدة، وحقاً أستغرق دافنشي سنوات طويلة في رسم اللوحة الشهير سنوات أنتهى منها عام 1498 . وحين شرع برسم اللوحة، طلب أن يأتوا له بشاب يريد أن يستلهم منه صورة سمعان بطرس، الأكثر أخلاصاً من بين الحواري الأحد عشر . فجاؤا له بشبان آية في النقاء والطهارة ، لم يمارسوا الخطيئة طيلة حياتهم، فكان دافنشي يحاورهم ويتأمل وجوههم وعيونهم، ثم يصرفهم، قائلاً : " أني لمحت في عين الشاب ما لا يريحني "، وهكذا صرف وقتاً وأيضاً العديد من الشبان ، حتى أتوا له بشاب كان حقاً مثل بطرس الحقيقي راعي في جبال الجليل بفلسطين، وتأمله دافنشي فوجد فيه مثال البراءة والنقاوة فرسمه على أنه بطرس، وصرفه بعد أن أنتهى من رسمه ، ثم مضى ليكمل اللوحة، وأراد في الأخير أن يرسم يهوذا الأسخريوطي الخائن الذي سلم السيد المسيح لليهود، كأخر لمسة في اللوحة .
ثم طلب دافنشي أن يأتوه برجل فاسق فاجر، تنطق عيناه بالخيانة والشر، لرجل يقدم على تسليم السيد المسيح لأعداءه ليصلبوه مقابل دراهم معدودة (30 قطعة فضية .. وهي تعادل ثمن عبد في تلك الأيام)، فكانوا كل ما يجلبون له من عتاة المجرمين، يتأمل وجههم، ويصرفهم قائلاً أن في وجهه بقايا رحمة وإنسانية، وهكذا جلبوا له مجرمين وأوغاد من السجون ومن أراذل البشر، لم يكن يقبل بهم، حتى جاؤا إليه بشخص قالوا أنه مثال للحقارة والإجرام والسفالة، فتطلع دافنشي بوجهه، وحقاً لم يجد فيه ذرة من البشرية والإنسانية . وبدأ دافنشي يرسم هذا المجرم الذي يمثل في إجرامه يهوذا الأسخريوطي، وعندما أنتهى من لوحته وأكملها، أراد أن يعطي الشاب بعض النقود ويصرفه، لكنه لاحظ الدموع في عيني الشاب، فتأسف دافنشي وأيقن أنه أخطأ في أختياره لهذا الشاب على أنه يهوذا ... فالدموع دلالة براءة وندم وحزن وهي علامات إنسانية .... دافنشي سأل الشاب لماذا يبكي ...؟ فأجابه الشاب ألا تعلم أيها المعلم الكبير ..؟ فأجابه دافنشي .. كلا لا أعلم فقال له الشاب المجرم : أنا هو نفس الشاب الذي رسمتني على أني مثال الطهارة كالحواري بطرس ... فسقط دافنشي مغشياً عليه من هول الصدمة ...! إن واحدا منكم سيسلمني هذا الموضوع لا يمكن تصويره إلا على هذا النحو، فدافنشي أضفى على لوحته وحدة التكوين كثير من الفنانين التشكيليين تناولوا موضوع "العشاء الرباني" أو "العشاء الأخير" في أعمالهم الجدارية ولوحاتهم، وخاصة فناني عصر النهضة، كما تناول الموضوع نفسه بعض الكتاب والأدباء، ونشير على وجه الخصوص إلى رواية "شيفرة دافنشي" للكاتب الأميركي دان براون، وعلى الرغم من أن غلاف الرواية وضعت عليها لوحة "موناليزا" إلا أن العمل يدور حول التصوير الجداري "العشاء الرباني" لدافنشي والتي يحاول براون أن يقنعنا أن الذي يجلس على يمين السيد المسيح ليس يوحنا المعمدان، وإنما مريم المجدلية التي تزوجها المسيح وأنجب منها، وظل نسل المسيح يتوالد من خلال عائلة الميروفنجيين حتى وصل إلى صوفي نوفو العالمة الباريسية الشابة التي تعمل في فك التشفير وبطلة الرواية .
أن هذه الصورة التي رسمها ليوناردو لم يسبق لمصوّر أن رسم ما يماثلها دقة وصدقا، حنى نكاد نقول إن هذا الموضوع لا يمكن تصويره إلى على هذا النحو. لقد استلهم دافنشي في تصويره تلك اللوحة ما جاء في الكتاب المقدس متطلعا إلى قول المسيح: "أقول لكم إن واحدا منكم يُسلمني، فحزنوا جدا وابتدأ كل واحد منهم يقول له هل أنا هو يا رب؟". ثم إلى ما أضافه إنجيل يوحنا حيث يقول: "كان متكئا في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه". ومبعث ما في المشهد كله من حركة مرجعه إلى هذا الحوار، فنرى المسيح يتوسط المائدة المستطيلة وإلى يمينه ثم إلى يساره التلاميذ الإثنا عشر بين قائم وقاعد. وما أن يجهر المسيح بكلماته حتى يبدو الفزع والهلع على وجوههم، على حين قعد هو ساكنا مطرق العينين مطبق الجفنين، وكأنه في صمته يهمس بقوله: "أقول لكم إن واحدا منكم يُسلمني". ومع هذا الذي يحسه المشاهد للنظرة الأولى من أن هذا التكوين الفني لا مخرج إلى غيره ولا معدل عنه تعبيرا عن هذا المشهد، فإن عناصره تبدو كأنها جديدة مستحدثة، فضلا عما ينطوي عليه التكوين من بساطة تُعزى إليها ما بلغته هذه اللوحة من صيت ذائع . وهذه اللوحة، هي ولوحة "عذراء مصلّى سيستينا" لرفائيل أكثر اللوحات شعبية في الفن الإيطالي كله، فهي لإمعانها في البساطة ثم لوفائها في التعبير تترك بهذا وذاك أثرها في نفس كل من يتطلع إليها. المسيح كان صاحب رسالة، وكان قد أدرك بحدسه أن يتعرض لمؤامرة، فقال " إن ابن الإنسان لا بدّ أن يمضي كما قد كتب عنه، ولكن الويل لذلك الرجل الذي على يده يسلّم ابن الإنسان، كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد " . اللوحة تقول، أن من كان نقياً كدمعة، يمكن أن تلوثه محن الحياة التي يركع ويستسلم فلا يقبل إلا بما يرضي شهواته ومزاجه، حيالها، المحن والأهداف العظيمة بحاجة لرجال كبار، اليوم هناك دول تنهش في لحمنا وأرضنا ووطننا ومقدساتنا ... تدفع 150 دولار راتباً لمن للذين يكتبون التقارير وقد أسسوا مكاتباً تشتغل بدماء هؤلاء، 150 دولار سعر حذاء لا أكثر.
إرسال تعليق