بعد أن سكتت المدافع

مشاهدات

نزار السامرائي


من رأى مشاهد احتفالات سكان مدن قطاع غزة ، لا يتأخر كثيرا في تفسير نزول الآلاف المؤلفة من أبناء القطاع رجالا ونساء وأطفالا، بأنهم يعبرون عن فرحة غامرة سيطرت على المشاعر والنفوس التي دمرها العدوان الإسرائيلي، الذي أتى على البشر والحجر والشجر ، فكانت مشاهد الدمار التي طالت مدن قطاع غزة، وكأنها صور منقولة من هيروشيما وناكازاكي في اليابان ودريسدن في ألمانيا بعد الحرب، كانت تلك المشاهد مدمرة للنفس البشرية التي تحمل ذرة من الإنسانية، لهول الكوارث التي خلفتها الهمجية الإسرائيلية، عند قصفها الوحشي للمدن بما فيها من منشآت طبية وتعليمية، ومناطق سكنية مدنية ومراكز دينية . لقد دفع الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا من دماء أبنائه في غزة الصمود، حتى فاقت الأرقام الخمسة وأربعين الف شهيد، ونحو عشرة آلاف ما زالت جثامينهم تحت أنقاض مدينة خرجت لتوها من زلزال بأقوى درجاته وخلف وراءه تسونامي أكبر من تسونامي الذي ضرب إندونيسيا وجنوبي شرقي آسيا أواخر عام 2004، وعشرات الآلاف من الجرحى، كثير منهم بدرجة إعاقة كبرى .

لا أحد يستطيع أن يقدّر مدى الأضرار التي لحقت بالقطاع نتيجة القصف الإسرائيلي الذي تواصل منذ بدء رد الفعل الهمجي الإسرائيلي على عملية 7 تشرين الأول "أكتوبر" 2024، بعض المتفائلين يقدرون الخسائر بعشرات المليارات من الدولارات، وبعضهم يضاعف الرقم، ولا أحد يدري كم يستغرق رفع الأنقاض؟ وكم ستستغرق إعادة البناء لمدن مدمرة ؟ وهل تُغنى تبرعات من هذه الجهة أو تلك والتي لا تداوي جرحا، في إغناء صندوق إعادة الإعمار؟ لا نريد منع المبادرات الصغيرة فهي مرحب بها ولكنها كدلوِ ماءٍ يصب في حوض كبير، ولكن ما حصل في غزة أكبر من المبادرات لدولة بعينها أو لمنظمات إنسانية . في تقدير أكثر المتفائلين حماسة، أن مشروعا كهذا لن تنهض به منظمات أو جمعيات خيرية، ولا مؤتمرات مانحين تنظمها الأمم المتحدة، وقد سبق لنا أن جربناها في أكثر من قارة وأكثر من منطقة، لا يصل منها ألا النزر اليسير، ثم يذهب معظم الباقي لإدارة الصناديق المشرفة على التنفيذ، أي بدلات مكاتب وتنقل ومرتبات موظفين ومشرفين . إن دمارا بحجم دمار غزة، لا ينفع معه إلا عشرة مشاريع مثل مشروع مارشال الذي أنقذت به الولايات المتحدة، أوربا بُعيد الحرب الثانية من ويلات ما خلفته الحرب، عصفت باقتصادها وأوصلتها إلى القاع، عندما نقول عشرة مشاريع مثل مارشال، فإننا نعي ما نقول، لأن قيمة الدولار في الوقت الحاضر لا يمكن مقارنتها بقيمته عام 1945، ولا أظن أن الولايات المتحدة في وارد خططها أو تفكيرها لا سيما بعد دخول الحقبة الترمبية إلى البيت الأبيض، أن تفعل الشيء نفسه مع غزة، لا سيما أننا نعرف ترمب الذي يعد كثيرا وينفذ قليلا، ولا يعطي دولارا إلا إذا ضمن منه استثمارا مرحبا ليس ليدخل في جيبه، كما يفعل سياسيو الغفلة في العراق، وإنما ليضيف إلى قوة الولايات المتحدة قوة، كي يحقق هدفه الأسمى بأن يعيد إليها قوتها المسيطرة في العالم .

على هذا لا بد أن تتشكل صناديق لبناء غزة من الصفر، ومن دول الخليج العربي لا سيما المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية ودولة قطر، لأنها مكتوب عليها في عرف الكثيرين من ناطقي الضاد، أن تُعيد بناء ما تدّمره إيران في بلادهم، ولكن علينا هنا أن نتساءل، هل تمتلك هذه الدول التي تتنافس فيما بينها لقطع أشواط أكبر في الازدهار الاقتصادي، الرغبة في أن تزيل كل الآثار المدمرة للمشروع الإيراني المدمر الذي تم كنسه من ثلاث ساحات عربية، هي الأكثر تعرضا للدمار من حرص ولاية الفقيه على التمدد في بلاد العرب؟ وإذا امتلكت الرغبة هل تمتلك الفائض من الأموال لتنفقها خارج أراضيها كي تمسح ما كتبته إيران على سبورة التاريخ العربي الراهن؟ أما الاتحاد الأوربي والصين وروسيا وهي دول تبحث عن مصالح وتظن أنها إن فعلت ذلك فإنها ستتعامل معه كاستثمار فاشل، لا كما تفعله في أفريقيا . وأخيرا أود أن أسأل سؤالا محددا، بعد أن سكتت المدافع، وجنازير الدبابات عن الدوران، وجثمت طائرات F16 في أوكارها، وشعر المواطن ابن غزة، رجلاً كان أو امرأة، شيخاً أو طفلاً بقليل من الاطمئنان إلى أنه لن يُستهدف بغارة غادرة، تأتي على حُلمه بغدٍ أفضل، ما هي دوافع مُلَثَمي حركة حماس من هذا الاستعراض المسلح في سيارات بيضاء، وسط آلاف المحتفلين من الناس الذين دفعوا ثمن الصمود، وهم ينتظرون بصبر الرجال، لحظةً يستردون أنفاسهم ليتدارسوا مع أنفسهم. كيف يستطيعون لملمة بعضهم وجمع شيء من ذكرياتٍ ما تزال تحت الأنقاض، علّهم يرون الطيور تحلق من جديد في سماء غزة، بدلا من المسيرات وبدلا من طائرات الموت والغربان والجراد، وعلّهم يَرون البناء يرتفع في مدنهم وتورق الأشجار ثانية؟ ثم لماذا لم يستعرض المستعرضون بأسلحتهم بوجوه مكشوفة، هل يخشون على أنفسهم من أحد من اهل غزة؟ أسأل مَن خطط لاستعراض القوة المسلح في مدن قطاع غزة، هل تظنون أنكم خططتم لمواجهة إسرائيل وإرعابها؟ وهي التي تتحين الفرصة لأي خطأ ترتكبونه كي تنسف اتفاقا قال أحد قياديكم، إنه ما كان له أن يتم لولا وجود الرئيس ترمب؟ أم أنكم أردتم إيصال رسالة للشارع الغزي، بأنكم السلطة الوحيدة التي لم تفقد قوتها، وأنكم ما زلتم تتحكمون بالشارع السياسي والقرار الأمني؟ بل لأكون أكثر دقة هل هي رسالة للسلطة الفلسطينية بأن منطق 2007 ما زال هو المسيطر على عقلية ما تبقى من قيادة الخطوط الخلفية من حماس، دعوا الناس تحتفل بالنصر لأنه نصرهم، فلا تعكروا هذا اليوم بعواصف وأعاصير، عليكم ألا تمنحوا دولة ما أو جهة ما، نتيجة ما قدمتم من أمثلة صمود اسطوري، وتضحيات جسام هدية مجانية، فأنتم من قدمها وأنتم وحدكم تستأهلون قصائد مجدها ولوحات فخرها .

تعليقات

أحدث أقدم