مقامة العادات الشرقية

مشاهدات



صباح الزهيري


نقرأ في محطة استراحة صاحبنا المنشورة (( توصيف بيتر للشرقيين , وقد يكون صحيحا بعضه , ومن العادات الشرقية اللافتة للنظر أيضا أن الناس يتبادلون المعلومات بسرعة ويقفون بما يقوله الآخرون وينقلونه حتى السؤال الذي لا يملون من تكراره ما هي الأخبار اي شكو ما كو)) , يستفز عقولنا وينكأ جراحاتنا ألأزلية , ويحرضنا لنبق البحصة بما نتجنب ان نقوله . بلاد يعرف معظم عقلائها طبيعة علّتها , غير أنهم مع ذلك  يتجاهلونها , إما لتعصّب متمكّن في النفوس , أو مصالح مرتبطة بالنفوذ والجيوب , أو إنكار نابع من غريزة البقاء , فمن مشاكلنا في المنطقة العربية اقتناعنا بالقدرة المُطلقة للخارج على التحكّم بمصائرنا , ثم لومهم على كل شيء بينما نحن لا نفعل شيئاً , ذلك هو شرقنا المنفوخ بالأمجاد الوهمية التي نام عليها ,  وكأن صاحبنا لم يقرأ ماكتبه نجيب محفوظ في روايته أولاد حارتنا : (( و من عجب ان اهل حارتنا يضحكون , على ما يضحكون ؟ انهم يهتفون للمنتصر ايا كان المنتصر, و يهللون للقوي ايا كان القوي , ويسجدون امام النبابيت يداوون بذلك كله الرعب الكامن في اعماقهم )) , ولا ما قاله الفيلسوف والكاتب الروماني  أميل  سيوران : (( لأننا فشلنا في خلق إنسانٍ يفكّر , لم يتكوّن لدينا شعب , بل تشكّل لدينا جمهور , جمهورٌ مصفق , وجمهورٌ لاعن , يصفّق مرة , ويلعن مرة , لكنه لا يفكّر)) .


كان مالك بن نبي قد كتب من قبل عن (القابلية للاستعمار) , ويعني استعداد بعض الشعوب والأمم لأن تكون مستعمرة من غيرها , وكتب بعده متأثراً به علي شريعتي عن (القابلية للاستعباد والاستبداد) متأثراً بابن نبي من جهة , وبالكواكبي قبله في ( طبائع الاستبداد ) من جهة أخرى , القابلية للخديعة أو للانخداع هي وجود استعدادٍ فكري ونفسي واجتماعي لقبول الخديعة والانسياق خلفها دون تحكيم العقل والمنطق أو التدقيق في الواقع والمعطيات , ودون سلاح العلم والعقل يصبح الإنسان في مهب ريح الخديعة والتضليل , وقد جرى من هذا كثير في عالمنا العربي . أعمق ما قرأت في الآونة الأخيرة قول المفكر المصري ميلاد حنا ( العرب في قبضة الماضي ) , جدل حول الماضي , وقتال عليه , وحروب من أجله , ونفض لما حققه الآخرون من علم , ومبارزة قاتلة حول النسب لا حول الإنجاز , والدول تملأ الفضاء أقماراً اصطناعية تحسباً لامتداد العيش إلى كواكب أخرى , ونحن نعاني الجفاف بين النهرين . عندما نشر البارون دي مونتسكيو كتابه الأشهر «روح القوانين» في عام 1740 وظّف مفهوماً كان متداولاً بين بعض المثقفين الأوروبيين لوصف الحكم العثماني , وهو (الاستبداد) وذلك بهدف توفير ذريعة لنقد وإصلاح النظام الفرنسي الذي عاش في ظله, لكنّ تفسيره للاستبداد الشرقي أصبح تدريجياً بمثابة حكم تأريخي مبرم على طبيعة المجتمعات (الشرقية) لأجيال من مؤلفي الكتب والدارسين ورواد الرحلات في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر, كان هذا المصطلح يعني مجتمعا ثابتاً وخانعاً , وحكومة متخلفة وفاسدة , مع حكام تعسفيين وديكتاتوريين , يمتلكون رعايا أذلاء ومهمشين. (( من لا يتجدد يتبدد  , ومن لا يتقدم يتقادم ,  ومن لا يتطور يتدهور , ومن لا يتعلم يتألم )) , ونحن نعيش في ظلمات الأسطورة يتحكم فيها غيلان بشرية إفتقدوا العقل والإنسانية , كما اننا بكل أسف شعوب لها ذاكرة الأسماك , أو بلا ذاكرة , فما إن بنينا شبه دول حتى نشطت عندنا الإنقلابات العسكرية والصراع المميت على السلطة , وأثبتنا أننا شعوب تحمل الكثير من العدوانية , ولأننا لانستطيع تحويل هذه العدوانية ضد الغير من الشعوب بسبب ضعفنا , حولناها ضد بعضنا البعض , فأنظر ماذا يحدث في ليبيا والسودان ولبنان وسوريا واليمن والعراق , فكل مايحدث ليس صدفة , بل هو مستمد من ثقافة عدوانية مرعبة نحملها في داخلنا . مضت الأجيال مضللة بأن الوطنية بندقية , والشرف أن تموت في سبيل ما يراه المتسلطون على مصير الناس , فالحروب تلد حروبا , والصراعات تنجب صراعات , والويلات في مسيرة الإنشطارات الأميبية المتواكبة , ولا من أحدٍ يستفيق ويرى بعيون العقل والبصيرة , ويحاول الخروج من دوامة الهلاك والإهلاك المتعاظمة , ويغيب عن وعي الأمة الكفاح العقلي الذي هي في أمس الحاجة إليه , هذه الأمة التي ما تعلمت مهارات المواجهة العقلية والفكرية , ولهذا ضاعت حقوقها وتميعت قضاياها , وصار الغاصب صاحب حق , وصاحب الحق مدانا ومجرما , لأنها لا تعرف سبيل العقل , وتحسب البندقية هي الحل .


تعليقات

أحدث أقدم