من الحُبّ ما قتل

مشاهدات




قصّة قصيرة بقلم الأديبة : تبر العرباوي 


عزيزي القارئ .. أجدني للأمانة مُضطرّة لبعض الإيضاح :


في خضمّ أحداثٍ ما في بلدٍ ما من بُلداننا العربيّة اكتشفتُ أنّ خيالي ككاتبة لا يستطع أن يُحاكي ما يحدث في واقع تلك البلاد . سأروي لك عزيزي هده القصّة وسأُجري فيها مُبارزة بين خيالي وهذا الواقع الخيالي ولك عزيزي القارئ أن تُفرّق بين الواقع والخيال . انتبه جيّدًا .. لهذه المُبارزة ولا تُلهكً عنها كثرةُ المُبارزات في القصّة . تصوّر أنّ أباكَ يستفيقُ يومًا نشطًا على غير العادة, سريع الحركة, كثير الصّخب ويصرُخ في الجميع بإعلاء الزّينة ونحر الذّبائح ودقّ الطّبول والمزامير لأنّه سيتزوّج أمّك , التي لم تُفارقهُ يومًا مندُ عرفتهُ . هذا ما حدثَ أو شيءٌ يُشبههُ كثيرًا.


استفاقَ إخوتنا وبدأوا …المَآذنُ ترفعُ التّهليل والتّكبير .., الطّبول والمزاميرُ تجُوبُ الشّوارع التّي زَيّنتها الرّاياتُ والأعلام ..مصابيحُ الكهرباء المُلوّنة . أسرعتُ  أتفقّدُ الرّزنامة .. هل نسيتُ عيدًا ما .. تأكّدتُ, .. لا عيدَ اليوم ..فتَحتُ التّلفاز . بثُّ مُباشرٌ من مجلس الشّورى . وافق المجلسُ على اقتراح ترشيح وسامتهِ لدورةٍ دُستوريّة جديدة .. ووسامتَهُ نزَلَ عندَ رغبة مجلسِ الشّورى ورشّحَ نفسَهُ . ضَحكتُ حتّى وقعتُ على الأريكة , فوسامتهُ وُلدَ على الكُرسيّ وسيَموتُ دُونَهُ . غطّت أصواتُ الشّارع على صوت التّلفاز , فجأةً صفعتُ نفسي .. تضحكينَ كلّ هذا الضّحك وعلى مقرَبةٍ منكَ, تضجُّ شوارعٌ أُخرى بأصوات أُخرى .. وتنطقُ المآذنُ لأهدافَ أخرى وزينةُ الشّوارع الدّماء .. نزلتُ .., في ساحة البَلدة نُصبت الخيامُ والسُّرادقاتُ وأُعليت المنصّات وانتصبت الشّخصيّاتُ المَرموقة ” خيامٌ عربيّة غير ذات قِرى “ وفي اليوم التّال, نزلتُ أيضًا, وفي اليوم الذي تلاهُ, وعلى امتداد شهرٍ أو يزيد .. والأفراحُ تتطوّرُ يومًا بعد يوم .. في البدء, كان النّاسُ يمشونَ في الشّوارع مُبتسمينَ غيرَ أنّ أحدهم سامحهُ الله , في نُقطة ما من تلك البلاد, صفّق في الشّارع وأثنى مُذيعو التّلفزيون على ولائه وفرحه الصّادق , فاضطرّ الجميع للمشي مُصفّقين مُبتسمين .. واقتحم أحدهم مهرجانًا خطابيًّا واندَفعَ يرقصُ ويُصفّقُ , ما جعَل كلّ الشّعب يرقصُ ويُصفّق في كلّ مكان.. الوزارات والإدارات العامّة و الخاصّة والمساجد والمدارس والجامعات والمراحيض العُموميّة والمحطّات كُلّها صارت مراقص . الكُلّ يرقُصُ ويُغنّي , نساء ورجال , شيبًا وشبابًا . ينزلُ الوزير من سيّارته الفخمة راقصًا , سيّارتهُ التي يقودها سائقٌ راقص ويفتحها مُرافق راقص , يدخُلُ الوزارة راقصًا وتُحيطُ  به جُموع المُوظّفين الرّاقصة .. وكذلك في ما ذكرنا من الإدارات والمُؤسّسات ..  والمُذيعون يُعلّقون راقصين طبعًا .. الفرحة تغمرُ أرجاء البلاد .  الشّعب يُعبّرُ بتلقائيّة وعفويّة عن حُبّه لقائده المُفدّى وسامة ال.. من بين طاقم التّلفزيون , كانَ هناك مذيعان مُتمكّنان , تفوّقا على جميع العاملين معهما, لكنّ المُنافسة ظلّت بينهما على أشدّها, تنافسا وتبارزا حدّ الموت . أحدهما ظلّ عشرين ساعة ينقُلُ ما يجري في شوارع مُختلف المُدن مُبتسمًا, مادحًا , فاستشاطَ الآخرُ غضبًا وظلّ ثلاثة أيّام دون انقطاع  ينقلُ المُستجدّات ويمدحُ . حتّى أنّهُ في إحدى المرّات, أوردَ تسعًا وتسعين صفةً لوسامته من قبيل .., القائد, الزّعيم , البطل , الشّجاع , الحكيم , الرّصين ,الشّاب الوسيم ,..الطّويل ,العريض , المُسالم , المُنتقم الصّامد, الشّاهد, الماجد .. كما تنافست الشّركاتُ والمحلاّتُ والمخابز والحانات والكازينوهات على طباعة عبارات الولاء اللاّمتناهي , والانقياد اللاّمشروط والحُبّ العُذري لوسامته على لافتات كبيرة تُغطّي واجهاتها وجدران الشّوارع .


البالونات الهوائيّة المُختلفة الألوان , تتطايرُ في كلّ مكان . 

إحدى المُقاطعات نظّمت مسيرة ولاء , جمعت لها كلّ ساكنيها واستعارت بعضا من سكّان البُلدان المُجاورة . جابَ النّاسُ في تلكَ المسيرة, الشّوارعَ راقصين مُغنّين مُصفّقين .. فتبعتها كلّ المُقاطعات . حتّى أنّهُ قيلَ أنّهم جاؤوا ببعض شعوب أمريكا اللاّتينيّة في جسرٍ جوّي لامدادهم بالرّاقصين .. وليتكاثروا فيما بينهم . وكُلّما تفتّقت قريحةُ أحدهم على عملٍ ولائيّ , إلاّ وانتشر في البلاد انتشار النّار في الهشيم وصارَ واجبًا وطنيًّا , لا مناص من أدائه . وتنافسَ الشّعراء والمُغنّون والزّجّالون في سرد ملاحم وسامته وبطولاته التي لم يشهدها كوكب الأرض في تأريخه, .. فبعضهم نسبَ إليه مآثر هرقل وآخر ملاحم كلكامش  وحُروب حنّبعل وخوارق زيوس وكرامات الأولياء ومُعجزات الأنبياء وثورات العبيد والزّنوج , كُلّها قادها وسامتهُ . حتّى خلتُ نفسي أعيش بمنأى عن الزّمان والمكان, .. أو بالأحرى بمنأى عن الحياة نفسها ووجدتُ سؤالاً يُلحُّ عليّ ويُفسدُ عليّ الانسجام معَ الحياة .. ما هوَ الكلام ؟؟ هل هُو ترتيب حُروفٍ لتُصبحَ كلماتٍ , اصطلحَ النّاسُ على معنى مُحدّد لها ومنها تُؤَلّفُ جُمل , فتدُلُّ وحدة معنى الكلمات في الجُملة على عملٍ ما أو حدث أو إحساس . هذا ما كنتُ أظنّه, أي أنّ الكلام لا بُدّ أن يكونَ مُرتبطًا بعملٍ مادّي أو حسّي ليُخبرَ عنهُ أو يصفهُ . أمّا ما يحدُثُ هُنا فلا علاقة لهُ بهذا .. الكلام كلامٌ , معنى في حدّ ذاته دون أن يُعبّر عن حدث أو يصفَ حالاً أو إحساسا, كلامٌ فقط .. حاولتُ أن أنسجمَ مع النّظريّة الجديدة , فأوصلتني إلى أنّ الكلام في هذه الحال يصبحُ غير ضروريّ . فإذا أخذنا على سبيل المثال كلمة بطل أو مُحرّر, والتي تُستعملُ كثيرًا في وصف وسامته وحاولنا ربطها بعملٍ ما يجعلُ منهُ ذلك المُسمّى ولم نجد, .. لماذا نستعملُها إذن.. إذا قُلنا عن شخصٍ طولهُ مائة وثلاثين سنتمترًا طويل وعملاق , هل يبقى لكلمة عملاق معنى .. وماذا ستعني كلمة قصير ؟؟ ولك عزيزي القارئ أن تقيس على ذلك كلّ الأوصاف .. أمّا الآن فلنعد لسرد قصّتنا.


أخذت المنافسة بين جميع فئات الشّعب .

فالشّيوخ لم يقتصروا على خُطب الجُمعة, بل أقاموا خُطبًا يوميّة .. وصار بعضهم يرسل بعض أتباعه ليُخرّب مُكبّرات الصّوت عند شيخٍ آخر . رُؤساء البلديّات ومسؤولو المُقاطعات والوزراء والقضاة , لم يَدعوا سبيلاً لإظهار الولاء والفرحة إلاّ وسَلكوه . في إحدى جولاتي وقد تَجمهرَ النّاس في ساحةٍ عامّة راقصين طبعًا وقد نُصبت منصّة وقف عليها بعضُ الرّجال المُهمّين . أخذ الكلمة مُفتي الدّيار الذي أعلن المُقدّم , أنّ وزير المُعارضة, سَيُلقي كلمة بعد سماحته .. استلم المُفتي الميكروفون وبدأ في إلقاء خِطبةٍ عصماء, توجّه فيها لكلّ الأمّة العربيّة والإسلاميّة .. مُذكّرًا إيّاها ببطولات وسامته وذوده عنها وتضحياته في سبيلها ولم يذكر تلكَ التّضحيات طبعًا . كما أثنى على جهاده, الذي لم يُحدّد مكانه ولا زمانه . وشدّد سماحته على أنّ الشّعب كلّ الشّعب مدعوّ ليقول نعم .. نعم كبيرة .. نعم قويّة نعم ثابتة . وزير المُعارضة كان يقترب من سماحته, ويُحاول زحزته من أمام الميكروفون دافعًا إيّاه برفق , ليتشبّثَ سماحتهُ بالميكروفون أكثر ويعلو صوتُهُ الجهوري وتنطلقُ الكلمات من فمه بانسياب عجيب .. أكّد فيه على الطّاعة والولاء لوسامته وأثنى على الرّقص والغناء العفوي لأبناء شعبه الأوفياء . علمًا أنّه وجمهرة من الشّيوخ والفقهاء في تلك البلاد عادةً يُحرّمون الغناء والرّقص والإختلاط , بل ويجعلونها من الكبائر .. لكنّ الضّرورات تبيحُ المحضورات . فمُؤخّرًا صار الشّيوخ ومن بينهم سماحته , يحضرون بأنفسهم حفلات الغناء والرّقص المُختلط ويُباركونها ويُثنون عليها .. ذلك أنّ الأعمال بالنّيّات كما يقولون . وزيرُ المُعارضة كان ممتعظًا وظلّ يُحاولُ زحزحة سماحته , حتّى أنّهُ داس على رجلهِ, فردّ لهُ سماحتهُ رفسةً على رُكبته واستمرّ في خُطبته العَصماء .. قال أنّ وسامتهُ يُعتبرُ مثلاً في العفاف والشّرف والكرم والجمال ,أين منهُ يوسف ابن يعقوب أو بني عبد المدان , أين منهُ الثّريّا , أين منهُ لقمان في حكمته , أين منهُ الشّمس , ثُمّ فلتخسأ الشّمس التي تغيبُ كلّ يومٍ , فوسامتهُ شمسٌ لا تغيبُ . وأخيرًا اعتذرَ لضيق الوقت, وكان ذل بعد ساعاتٍ طويلة من إمساكه بالميكروفون , كما اعتذرَ عن تقصيرهِ الشّديد في وصف وسامته, وأخيرًا مرّرَ الميكروفون لوزير المُعارضة الذي لم يكُن يطمعُ في بيانٍ أقوى أو خطبةٍ أشمل فسَماحتهُ لا يُشقّ له غُبارٌ في هذا المضمار . لكنّهُ بعد سرد بعض انجازات وسامته كإرساء الدّيمقراطيّة والعدالة وتحرير الشّعوب والأوطان ولم يُحدّد تلكَ الشّعوب والأوطان . رُبّما كانت بعيدة ورُبّما سكتَ عمدًا عن تحديدها لأنّ وسامتهُ لا يُحبّ أن تعرفَ يُسراهُ ما فعلت يُمناهُ . لكنّهُ شدّد على أنّهُ من الجُحُود وانعدام الأخلاق وعمى البصيرة أن ينسى أحدُهُم الوالدَ المُقدّس وعهده الأغرّ , فكان ذلكَ بمثابة الصّفعة لسماحته . فما كانَ منهُ إلاّ أن ضَربَ جبهتَهَ وهجَمَ على الميكروفون يُريدُ اصلاح هفوته , لكنّ وزيرَ المُعارضة تشبّث بهِ خُصوصًا وقد رأى أثَرَ ذلكَ على سماحتهِ . 


في ساحة أخرى انتصبَ قاضي القُضاة ومُدير مُؤسّسة الهلال الأحمر , قال القاضي مُستهلاًّ .. منكَ العدلُ وإليكَ العدلُ وأنتَ العدلُ يا سيّدي , يا مُرسي العدل, يا حاكمَ الحُكّام , يا باعثَ الإلهام . يا سيّد الأرض والأشجار, يا مُلهمَ الأشعار .. يا شعبي العظيم , يا أرضيَ الحبيبة, يا تاريخي الأشمّ إنّني باسمي وباسم كلّ قُضاة بلد, نُعلنُ ولاءنا لسيّدنا  وحبيبنا وراعينا و حامينا ونقول نعم مُدوّيةً , تُزلزلُ أرجاء الأرض . مسؤول الهلال الأحمر, كانَ ينتظرُ قلقًا من أن لا يمتلكَ فصاحة القُضاة .. فكيفَ سيبُزُّها ؟ عندَما أخدَ الميكروفون, فضّلَ أن يبدَأَ كبداية القاضي .. فقالَ منكَ الدّواء وإليكَ الدّواء وأنتَ الدّواءُ بل الشّفاءُ من كُلّ داء, يا سيّد الأطبّاء, يا أوكسجين المُختنق وسيروم المُنزلق , يا دليلنا في كُلّ مُفترق وتذكّر أنّ القاضي قالَ شيِئا عن الأرض والأشجار, فأردفَ : يا صانع الغسق .. ضحك القاضي منهُ, لكنّ الجُمهور الرّاقص لم يكن ليُميّز بين كلمةٍ وأخرى, فالمُهمّ أن تكون مدحًا لوسامتهِ . أمّا عن مُنافسة المُغنّين والشّعراء, فلا مجال لحصرها أو حتّى تلخيصها . فقد تغنّت بوسامة وسامته وشُقرته وسُمرته وطولهِ وقِصرهِ ونحافتهِ وبدانتِه وكرمهِ وشجاعتِهِ وفصاحتِهِ وتورُّدِ خدّيهِ وغَنجِ عينيهِ .. ثُمّ أُعلنَ عبر مكبّرات المساجِد والسّاحات والإذاعة والتّلفزيون عن استعراضٍ عسكريّ تحيّةَ من القُوّات المُسلّحة لوسامتهِ . لزمتُ البيتَ في ذلكَ اليوم لأتابعَها عبرَ البثّ المُباشر .فأنا عادةً أُحبّ الاستعراضات العسكريّة .. بدأَ المُذيعُ صاحبُ الثّلاثة أيّام , بالتّقديم بصوتٍ مُتهيّج .. قُوّاتنا المُسلّحة الماجدة , بيارقنا العالية ..صانعوا نصرنا, مُسطّروا أسفار مجدنا, يُجدّدون الولاء لكَ, يا سيّدنا, يا سيّد السّادة .. وظهرَ على الشّاشة حشدٌ كبير من الجُنود في غير نظام , يُعلّقونَ صُور وسامتهِ على صُدورهم ويرفعونَ أخرى و ” يرقُصون بأنواع الرّقص الحسن “[1] و جاءَ تعليقُ المُذيع , قُوّاتُنا المُسلّحة ترقُصُ ابتهاجًا بترشيح قائدها المُفدّى, نعم قُوّاتنا المُسلّحة ترقُص وتتحدّى الأعداء أعداء الوطن والأمّة . والجُنود الذين لا يحملون أيّ قطعة سلاحٍ ولا يَركَبونَ أيّ آليّة عسكريّة يشتدّون في الرّقص والهُتاف, والمُذيعُ يُواصلُ : نعم جيشُنا يرقُص .. قُوّاتنا المُسلّحة تحتفل وتُغيظُ أعداء الأمّة .. لعمرك أنّ جيشًا يرقُص , لهو خيرُ تعبيرٍ عمّا تعيشُهُ البلاد من تآخٍ ووئام وانسجام وعيشٍ بطُمأنينة وسلامٍ . يا شعبَنا العظيم , لقد باتَ يُضربُ بنا المثل في المؤاخاة والمحبّة والسّلام , يكفينا فخرًا يا أبناء شعبي ويا قائدي وسيّدي , أنّ جيشنا هوَ الجيش الوحيد الذي يرقُصُ في هذا العالم  وليمُت أعداؤنا كمدًا وحسدًا .. استمرّ الاستعراض إن صحّ تسميتهُ استعراضًا لساعاتٍ طويلة وظلّ المُذيع يُعيدُ ما قالهُ في غير نظامٍ و لا إحكامٍ .. ليلتَها أُقيمت احتفالاتٌ في ساحات المدينة الكُبرى , إحداها وكانت تُسمّى ساحةَ عبد الملك بن مروان , ينتصبُ في وسطها سيفٌ عظيم . احتُفلَ فيها بطريقةٍ خاصّة, فقد غزتها جموعٌ غفيرة قد تُعدُّ بعشرات الآلاف أو حتّى مِئاتها, كُلّها تحملُ مشاعل نارٍ وأحاطت تلكَ الجموع بالسّيف وأٌطفأت أنوارُ السّاحة والشّوارع المُؤدّية إليها وظلّت تلكَ الجُموع  تدورُ بالسّيف وتهتفُ مُحرّكةَ مشاعل النّار التي تحملُها . ومنذُ تلكَ اللّيلة انطلقت شرارةُ النّار ولم تنطفئ .. فقد باتت الديكور الرّسمي لكلّ ما يُقال عن وسامتهِ . فمعَ الأغاني مثلاَ تُعرضُ مشاهد مُصوّرة لشخصٍ يركبُ فرسًا ويحملُ مشعلَ نارٍ يُلقيه في حقلٍ ثُمّ يشتعلُ كلّ شيء . أو كأن تُعرض صُور لمعابدَ أثريّة وتُدمُجَ معَها صورة النّار, أو كأن يكون أحدُهم يُغنّي أو يُلقي شعرًا و كُراتُ نارٍ تنطلقُ خلفهُ . لم أفهم سرّ ذلكَ الإدماج ولا وجدتُ لهُ تفسيرًا فما أعلمهُ , أنّ تلكَ البلاد وكُلّ بلاد العرب في مراحل وثنيّتها , لم تعبُد النّار . المُذيعُ صاحبُ العشرين ساعةً, ابتَكرَ برنامجَا جَاءَ فيه بجمعٍ غفيرٍ من الشّيوخ وعلى رأسهم سماحتهُ وعددٍ كبيرمن الأُدباء ووجوه البلاد , ليتحدّثوا عن وسامته بكلّ تلقائيّة . استهلّ سماحتُهُ الحلقة بالثّناء و التّمجيد لوسامته وأطنبَ في الحديث عن التّمسّك بكلّ الأديان التي كانت بلادُهُ مهدها, ما عدى دينه هوَ فلا أعلمُ إن كان قد نسيَهُ أم أنّهُ قد فعلَ ذلك قصدَ الإيثار, ثُمّ قال : بما أنّ معَنا جمعًا من الأدباء فلا ضير في أن تكون المُسامرة أدبيّة ووسامتهُ خيرُ من يُقدّرُ الأدب , علمَ اللّهُ أنّني أُحبُّ فيه هذا النّهج و كما قال الشّاعر : 


لقد كتمتُ الهوى حتّى تهيّمني   

لا أستطيع لهذا الحبّ كتمانا[2]


فتأوّه الجميع و أردف أحد الشّيوخ :

إنّ العُيون التي في طرفها حورٌ  قتلننا ولم يُحيينَ قتلانا [3] وكبّر بعضُ الشّيوخ وصفّقَ الأُدباء , ثُمّ تدخّلَ المُذيع , يا سادتي الكرام نُريدُ أن نتحدّثَ عن انجازات هذا القائد البطل بقليل من التّفصيل عن تصدّيه لأعداء الأٌمّة عن صُموده في وجه العُدوان وتحدّيه لكافّة قُوى الشّرّ , عن هذا النّهج الذي أرساهُ هذه “ الدّيمُقراطيّة التي باتت خُبز أطفالنا في المدارس “, ماذا تقولون في ذلك . فاختطفَ أحدُ الأدباء الكلمة وقال : 


أقولُ وقد ناحت بقُربي حمامةٌ   أيا جارتا لو تعلمينَ بحالي[4]


فقالَ آخر :

أيا جارتا إنّ المزار قريبَ  وإنّي مقيمٌ ما أقام عسيبُ[5]


فوسامتهُ قائدُنا المُفدّى ورمزُنا بل رمزَ كُلّ العرب والانسانيّة قاطبة, مُقيمٌ رُغمَ الدّاء والأعداء كالنّسر فوق القمّة الشّماء[6] فقائدُنا البطل الرّمزُ تهتفُ لهُ كلّ الحناجر الحُرّة في العالم وفي وطننا العربي , فاقتَحمَ سَماحتُهُ الحديث ليَقول :

لقد هتفَ اليومَ الحمام ليُطربا  وعنّى طلابُ الغانيات و شيّبا[7]


فردّ أحدُ الشّيوخ :

إن تكُن شابت الذّوائبَ منّي   فاللّيالي تُزيّنها الأقمار[8]


إنّ وسامتهُ قمرٌ في ليل الإنسانيّة الدّامس .. أذكُرُ جيّدًا عندمَا استلَمَ وسامتُهُ مقاليدَ الحُكم , كثَر اللّغطً عمّا يُمكنُ أن تكون مناهجهَ ومذاهبهُ فردَّ أحدُ الشّيوخ :


مذاهبُهُ أنّ الفِجاج عريضةٌ  

إذا ضنّ عنهُ بالنّوال أقاربُه[9]  


فاستَعادَ الشّيخُ الأوّل الكلمة سريعًا ليقولَ :


وظُلمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضةً

على المرء من وقع الحُسام المُهنّد[10]


وفي البدء قد ظلمهُ بعضُ ذوي القُربى , لكنّه سُرعان ما  استطاع بعبقريّتهِ الفذّة أن يستعيدهُم إلى صفّهِ , بل أن يُصبحَ رمزَهُم في النّضال والجهاد ومُقاومة العُدوان . وفي هذه لم يكذب الشّيخ , فأصحابُ نظريّة الكلام المُنفصل عن الفعل من أبناء عُمومته , قد صار فعلاً رمزهُم في الجهاد اللاّزمكاني . كانَ أحدُ الشّيوخ يتحدّثُ باسهابٍ واطنابٍ عن المُساعدات العظيمة التي قدّمها وسامتهُ لكلّ الجيران وبني العُمومة ومنكوبي الإنسانيّة في كلّ أرجاء الأرض . فهتفَ سماحتُهُ :


يُعينُ نساء الحيّ ما يستعنّهُ

ويُمسي طليحًا كالبعير المُحسّر[11]


المرأة .. المرأة ثُمّ المرأة , هل نسيَ وسامتُهُ هذا النّصف الرّائع من مُجتمعهِ .. وهل حصلت نساء العالم ,على ما حصُلت عليهِ نساءُ بلادنا من العَدالة والدّيمُقراطيّة والإعتبار.. فقالَ أحدُ الأدباء :


ولقد رأيتُك في النّساء فسُؤتني

وأبا بنيكِ فساءني في المجلس[12]


هذه المجالسُ الأدبيّة التي تُزيّنُ وجهَ بلادنا , هؤلاء النّساء, اللّواتي تصدّرن المجالس والوزارات والإدارات . هذه الحُرّيّة , أقُولُ وبكُلّ صدقٍ وشفافيّة إنّهٌ حادي ركبِنا نحو العلياء . فأضافَ أحدُ الشّيوخ :


يا حادي العيس عرّج كي نودّعَهُم

يا حاديَ العيس في ترحالكَ الأملُ


إنّهُ أملُنا وأملُ أٌمّتنا لقد أوتيَ من كلّ شيء.. فردّ سماحته لم يُؤتَ بل أُعطيهِ على علمٍ عنده, فردّ الشّيخ :


ولقد علمت بأنّ سرّك عندنا  بينَ الجوانح موثقُ الأشراج[13] السّرّ في نجاحه وتواصُله مع أبناء شعبهِ وأمّتهِ بكُلّ هذه المحبّة, بُعدُ نظرهِ وصدقُهُ , فما يُريهم إلاّ ما يَرى , فقالَ أحدَ الأُدباء :


الرّايُ قبلَ شجاعة الشّجعان هوَ أوّلٌ وهي المحلُّ الثّاني [14]  ووسامتهُ , أوّلُنا في التّضحية والعطاء ونحنُ خَلَفُهُ وعلى نهجه , ولم يكُن سماحتُهُ ليُعيدَ نفس الخطأ فقالَ :


سُلّت فسُلّت ثُمّ سُلّ سليلها

فأتى سليلُ سليلها مسلولاً[15]


إنّ هذه السّلالة المُباركة التي حَبانا اللّهُ بها, لم يشهد تاريخُ أمّتنا لها مثيلاً, فهنيئًا لنا وهنيئًا لنا وهنيئًا لنا . اشتدّت منافسات الولاء والثّناء بينَ أبناء تلكَ البلاد . وكانت مراكزُها ساحةَ عبد الملك بن مروان وساحةَ هارون الرّشيد, والمساجد الكبيرة ومضافات شيوخ العشائر ومقرّات البلديّات . فكُلّ مجموعة تُريدُ أن تبُزّ الأخرى وكلّ فردٍ يُريدُ أن يتفوّقَ على مجموعتهِ, وتطوّرت إلى بعض المُناوشات. ففي إحدى اللّيالي وقد اجتمع حاملوا مشاعل النّار في ساحة ابن مروان يهتفونَ ويرقصون , صرخَ أحدُهُم بعد أن نظرَ في ساعتِهِ على ضوء المشعل عدّة مرّات , أينَ أنتَ يا سيّدي .. نُريدُ أن نراكَ فاختطفها من فمه آخرون , نُريدُ أن نراكَ .. نُريدُ أن نراكَ .. فصرخَ الأوّلُ هذا وقت الامتحان , سنرى إن كان ينزلُ عندَ مطالبنا أم لا , فصرخت مجموعةٌ أكبر , نُريدُ أن نراك, ثُمّ صارت كلّ تلكَ الجُموع تصرخ : نُريدُ أن نراكَ .. نًريدُ أن نراك .. وما هيَ إلاّ لحظات حتّى هزّ المكان أزيزُ طائرة وأٌشعلت أضواء السّاحة والشّوارع المٌؤدّية إليها, وأضواء كاشفةٌ أخرى, انبثقت فجأة وصرخَ أحدهم , لقد جاء..لقد جاء .. وأطلّ وسامتهُ من باب الطّائرة العسكريّة وحيّا الجموع التي لوّحت لهُ بالمشاعل وصرخت بأعلى أصواتها ورقصت بجنون ..  في تلك اللّيلة كانت السّاحاتُ الأخرى أيضًا تحتفلُ وسرعان ما وصل الخبرُ إلى ساحة هارون الرّشيد وساحة جعفر البرمكي وصلاح الدّين الأيّوبي . فاغتاظوا من فطنة هؤلاء المُنافسين , كيفَ خطرَ لهُم أن يُنادوه ويطلبوا منهُ المجيء وكيفَ غاب عنهم هم شيء كهذا .. أحسّوا بالحقد والحسد, فهجموا على ساحة عبد الملك بن مروان واشتبكوا مع شاغليها وأوقعوا فيهم خسائر بين قتيلٍ وجريح ومُداس تحت أقدام الجُموع المُهتاجة . سماحةُ مُفتي الدّيار الذي لا تُغادرُ وجههُ ابتسامةٌ غريبة , أطلّ عبر شاشة التّلفزيون ليُعلنَ أنّ الذين قُتلوا في تلكَ اللّلية التّاريخيّة شُهداء .. إنّهُم شُهداء المحبّة وإنّنا نفتخرُ بهم , فقد كتبوا بدمائهم الزّكيّة . الطّاهرة وثيقة اخلاصِ , لايطعنُ فيها طاعن .. وقال وزيرُ المُعارضة يا أبناء شعبي , لقد اخترتم الخيار الصّائب والمسؤول, فلا تدخُلوا في مُناكفات جانبيّة, تُفسدون بها فرحتكُم . وكنتُ قد تعلّمتُ أنّ الخيارَ والاختيار يكون بين عدّة أشياء أو إمكانيّات, فكيف اختاروا بين وسامته ..؟  واستضيف أهلُ الشُّهداء في التّلفزيون وتباهت عائلاتُهم وعشائرُهم باستشهادهم . ما جعلَ شاغلي السّاحات الأخرى يقتلون بعضًا منهم , ليتباهوا بهم .. كما قتل بعضُ شُيوخ العشائر أنفارًا من عشائرهم, وقتل َ سماحتُهُ بعضَ الشّيوخ والمؤذّنين . وقتلَ قادة الجيش بعضَ جُنودهم , كُلّ ذلك بالتّوازي مع القتلِ المُتبادل بينَ السّاحات والعشائر والمساجد والجامعات والكازينوهات . والوزراء والمسؤولون, يهيبون بأبناء شعبهم أن يتعقّلوا ويُعلنونَ أنّهُ لا مجالَ لمُحاكمة أحد . فالكُلُّ يُحبُّ القائد, القاتلُ والمقتول على حدٍّ سواء, لكنّ تلكَ المُناشَدات لم تلقَ آذانًا صاغية . واستمرّ القتلُ والتّنكيل , كما دخلَ عاملٌ جديد على السّاحة وهو السّلبُ والنّهبُ وكُلّهُ حُبّا وإكرامًا لوسامتهِ , فلأجلهِ يقتلُ القاتل ولأجلهِ يموت القتيل . ونشطت تجارةُ السّلاح واغتنمَ مسؤولو مخازن الجيش, انشغالهُ بالرّقص, فأفرغوها أكوامًا من الحديد الصّدء وحوّلوها أوراقًا خفيفةً جميلةً ونافعة .  جماعاتُ المُهرّبين وقد انشغَلَ رجالُ الحُدود في التّعبير عن الولاء, طوّروا تجارتَهم مع الدّول المُجاورة و أتوا بأصنافِ من السّلاح لا يعرفُها حتّى جيشُهم .. بينما تسلّل بعضُ شُيوخ العشائر ومسؤولو المُقاطعات والفُقهاء ورُؤساء الأندية الرّياضيّة إلى دولة بني سوسان ودولة بني سلطان ودولة بني وهدان اللّذين كانواقبل تولّي الوالد المُقدّس , من أعداء تلك البلاد واستنجدوا بهم على مُنافسيهم , ورجوهم نُصرتهُم لإثبات حُبّ قائدهم المُفدّى. ولم يَرُدّهم جيرانهم خائبين , فسُرعانَما غزت سماء تلكَ البلاد أسرابٌ من الطّائرات , قصفت كلّ المناطق دون استثناء, ثُمّ تقدّمت مدفعيّةٌ من جهاتٍ عدّة واكتسحت الأخضر واليابس ..




                          *******


عزيزي القارئ لعلّني لم أفِ بوعدي لكَ ولعلّ خيالي شطّ بعيدًا أو لعلّيَ لم أٌوفّق حتّى في الإحاطة بالواقع ..


[1] ابن بطّوطة

[2] جرير

[3] جرير

[4] أبو فراس الحمداني

[5]  امرؤ القيس

[6] أبو القاسم الشّابّي

[7] جرير

[8] الخليفة العبّاسي : المُستنجد باللّه

[9] عُروة بن الورد

[10] طرفة بن العبد

[11] عُروة بن الورد

[12] الحُطيئة

[13]  جرير

[14]  أبو الطّيّب المُتنبّي

[15] مُسلم بن الوليد



تعليقات

أحدث أقدم